جيف باكلي: أغنية وداع غير معهود

“ضحيت بمجهوليتي لأجله، كما ضحى هو بي بحثًا عن الموسيقى”

-جيف باكلي، في حفل تكريم والده، الموسيقي الراحل، تيم باكلي

مع حلول صيف ١٩٩٦، كان جيف وفرقته قد بدؤوا العمل على تسجيل عينات مبدئية من ألبومه الثاني. خلال هذا العام استمر جيف في ترحاله بين نيويورك وممفيس حتى استقر في الأخيرة، وبدأ في تقديم عروض أسبوعية في مقهى صغير يدعى بارسترز، حيث وجد ما افتقده من ألفة مقاهي نيويورك الصغيرة، التي بدأ مسيرته بالغناء فيها. ألِف المكان حتى إنه كان يغسل الصحون بعد كل عرض.

كانت طائرة فرقته على وصول يوم الخميس، ٢٩ مايو/ أيار ١٩٩٧، ليلتقوا مرةً أخرى ويستكملوا التسجيل، ترك جيف  مدير أعمال الفرقة جين بوون يذهب ليصطحبهم من المطار، ونزل هو يطوف بصحبة مساعد الفرقة كيث فوتي في أنحاء تينيسي بشاحنة صفراء استأجرها الأخير منذ طلوع اليوم، باحثين عن الساحة التي استأجرتها الفرقة للبروفة، لكن بلا أمل. ما كان يفترض به أن يكون على مقربة منهم، ليصلا إليه سريعًا ويمكثان به قبل وصول بقية الفرقة، تحول إلى جولة من التيه والإجهاد في وسط المدينة. الرحلة التي لم تكن لتزيد على ١٠ دقائق، استمرت لساعات، ولا أثر لذلك المبنى أحمر القوالب، حتى أدركا أخيرًا أن هناك خطبًا ما في وصف الطريق.

اقترح جيف على فوتي أخذ قسطًا من الراحة عند النهر، وكان جيف قد رفض اقتراحه لتوه بتناول العشاء في أحد المطاعم. توقفت شاحنتهم قرب وسط المدينة، سحب جيف الجوكبوكس معه، ونزل فوتي بجيتاره، ليقعدا أخيرًا على الخط الساحلي لنهر المسيسيبي، عند نهر وولف الراكد، ذلك الذي يبدو كذبًا كبحيرة.

بعد دقائق من السكون على ضفاف النهر، لم يحتمل جيف اشتداد حر ممفيس، خلع معطفه ونزل ليسبح بثيابه كما اعتاد دومًا، تعجب فوتي وسأله عما يفعل. تجاهل جيف سؤاله، طافيًا على ظهره فوق التيارات الهادئة، وباحثًا عن سلامٍ مؤقت من صخب أفكاره وقلقه حيال الوقت الذي يمضي بلا رجعة، وكل الحيوات المؤجلة.

نجح ألبومه الأول لكن، ليس بالنحو الصاخب الذي توقعه الجميع، وعلى مدار الأشهر الماضية، لم تسترح أفكاره رغم انتهاء جولة الألبوم واستعداده لتسجيل الثاني. من المفترض أن تبدأ اليوم خطوات جادة أكثر نحو ذلك الإصدار المؤجل، بعد أكتر من محاولة غير موفقة للبدء، لكن جيف لا يزال خائفًا، وحائرًا حول صوته وهويته.

نظر جيف إلى السماء وبدأ يُهدئ نفسه مغنيًا كورس أغنية “Whole Lotta Love“ لفرقته المفضلة ليد زپلين، لاحظ أن صدى المرفأ يجعل صوته قريبًا من روبيرت پلانت. ضحك فوتي على الخاطرة ثم انشغل بسحب الجوكبوكس بعيدًا عن الماء.

“تريد الكثير من الحب، تريد الكثير من الحب”.. أراد جيف الحب، والراحة، فطفى وذهب الماء به بعيدًا، ومرت بضع قاطرات على مقربة منه، خلقت حولها موجها الذي امتد إليه وابتلعه، فلم يقاومه. التفت فوتي إلى الشاطئ بعد ثوانٍ، حيث كان جيف سرقه الموج، بلا أثر. لم تكن هذه هي الحادثة الأولى في نهر وولف الراكد، سبقه اثنان آخران على الأقل إلى الغرق في نفس المكان بنفس العام، سبح جيف حيث ابتلع الموج مراكب بكاملها.

بعد ٦ أيامٍ، الأربعاء، الرابع من يونيو/ حزيران ١٩٩٧، تمام الرابعة و٤٠ دقيقة عصرًا، صادفت عينا أحد رواد مركب “أمريكان كوين” السياحية جثة شاب تطفو على سطح الماء، بالقرب من شارع بيل، الشارع الأشهر في الولايات المتحدة الأمريكية، منشأ موسيقى البلوز. انتشله فريق المركب وعند التحقق من هويته، تأكدت مخاوف أصدقائه، إنه جيف باكلي، وقد انتهى حيث بدأ، على ضفاف أحزان البلوز.

حين رحل، كان قد ترك خلفه ألبومًا واحد، وألبومًا ثانيًا غير مكتمل، والكثير من العينات والتسجيلات، ومسيرة فنية مشتعلة، قصيرة جدًا، كنجم بدأ سريعًا في السطوع عاليًا، أبعد من المنال، ثم انطفأ قبل أن يدركه الكون، ويدرك هو اكتماله الفني الوحيد من نوعه.

١

سكوتي مورهيد

كانت ماري جوبيرت في الثامنة عشرة من عمرها حين وضعت طفلها، جيفري سكوت باكلي، بعد أن هجرها مغني الفولك تيم باكلي، وقد كان في التاسعة عشرة من عمره حينها، رحل بعيدًا، بحثًا وراء غواية الموسيقى، لم يخبر أحدًا أبدًا بذلك الابن الذي لم يعرفه، وتزوجت هي بميكانيكي سيارات يدعى رونالد مورهيد، وعُرف جيف الطفل وقتها بأنه سكوتي مورهيد، نسبةً إليه.

لم يدخل مفهوم الاستقرار إلى قاموس هذه العائلة الصغيرة، كان ثقل الأمومة فادحًا على ماري وهي تحاول أن تجد قوتًا للطفل، تنقلت وتنقل معها من وظيفة إلى أخرى، من مدينة إلى مدن أخرى، من منزل إلى منازل كثيرة، وبين كل هذا تربى جيف في رعاية جدته وخاله جورج وخالته پيجي.

رغم غياب تيم باكلي، لم تغادر غواية الموسيقى ظل طفله، كان لخاله جورج تأثير كبير، أحب مشاهدته يغني الروك آند رول مع فرقته كل عطلة في جراج المنزل وتعلم منه النوم متأخرًا، عرفته جدته على ذ تشامبرز برذرز، وغنت له بالإسبانية على جيتارها الصوتي، ذلك الجيتار الذي بدأ اللعب عليه منذ الخامسة من عمره.

أما ماري، فكانت عازفة بيانو وتشيلو، وفي طريقهما إلى مدرسته كل صباح عرفته على البلوز وموجة السايكدليك روك الجديدة، سويت آند تيرز، كروسبي، ستيلز، ناش، و جايمز براون، و سلاي آند ذا فاميلي ستون، اعتادا الغناء معًا في أرجاء المنزل، وعرفته للمرة الأولى على موسيقى والده تيم باكلي، في الخامسة من عمره، بأغنية “Once I was“.

لم يكن رونالد، زوج ماري موسيقيًّا مثلها، كان ميكانيكيًّا ذا ذائقة موسيقية رائعة، تعرف منه إلى فرقته الأحب ليد زبلين، ثم بووكر تي جونز، جوني ميتشل، وويلي نلسون، كوين، جيمي هيندركس، ذا هوو، وپينك فلويد، وبسببه نمى وعيه بالپروج روك، واكتشف فرقًا مثل جنيسس، ياس، راش.

رغم معرفته بمولد طفله جيف، لم يحاول تيم باكلي التواصل معه أو السؤال عنه، حتى ربيع عام ١٩٧٤ حين زارت ماري بصحبة جيف منزل تيم وأقاما عنده عدة أيام، قعدوا بعضها على الشاطئ، واندثر تيم بقيتها حبيس غرفته مع موسيقاه، وكان جيف نائمًا غالب الوقت، لم يحاول تيم أن يقول له شيئًا، ولم يرد مكالمته بعد تلك الزيارة، انقطع الاتصال تمامًا حتى توفي تيم إثر جرعة زائدة من الهيروين، في ٢٩ يونيو/ حزيران عام ١٩٧٥، ولم يخط عامه الثامن والعشرين.

الغناء كنزعة بقاء

في الثانية عشرة من عمره، وسط حضور عائلي حميمي بالمنزل، لاحظ جيف أن رونالد، شرب حتى غلبه النوم بشكلٍ محرج على مرأى الجميع، وليشغلهم عن المشهد، أطلق جيف العنان لصوته فخرج كما لم يألفه قبلاً، غنى أمام عائلته كل أغنية عرفها لـ إلتون جون، وكانت المرة التي اكتشف فيها جيف أن له صوتًا جميلاً، كافؤوه بدولارات فضية.

لكن طفولته لم تكن قط سعيدة، في عينيه كان كل شيء مؤقت، سريع، بنحوٍ يشعره بعدم الأمان، تنقل مع ماري من الساحل الغربي إلى الريف الغربي، أقاما في بيوتٍ لشهورٍ أطول من غيرها، لكنهما لم يدوما في مكانٍ أبدًا. أفضل الأماكن كانت أيضًا أسوأها، لأنه لحظة أن يكوِّن صداقة مع أحدهم، يحين موعد الرحيل من هناك. لم يتوقف سعي ماري للبحث عما وراء الشاطئ الآخر.

“كانت الموسيقى حولي دائمًا، صديقتي وحليفتي ومعلمتي ومعذبتي، لا أذكر غيابها يومًا. حتى عندما استولى عليَّ الغناء”.

في الثالثة عشرة من عمره، حمل جيتاره الكهربي الأول “جيبسون ليز پول” أسود، وقرر أن يصير موسيقيًا، لعب في فريق جاز بمدرسته، وتعرف عن قرب إلى الجاز فيوجن، بعدها أسس فرقة صغيرة في شمال كالفورنيا تدعى Axxis، على اسم إحدى المدن التسع عشرة التي عاش بها.

بالأموال الضئيلة التي كان يكسبها، بدأ تكوين مجموعته الموسيقية المفضلة، كل جمعة يشتري ألبومًا جديدًا، بدأها بـ Physical Graffiti، الألبوم السادس لفرقته المحببة “ليد زپلين”.

في السابعة عشرة من عمره، أراد جيف الاعتماد على نفسه، مَل التنقل مع ماري بين المدن، فغادر المنزل وبدأ يبحث عن عمل، لم يرد وظيفة تقليدية، لأن عليه أن يملأ استمارات تلك الوظائف، ويكتب المدارس التي التحق بها. التحق جيف بأربعة مدارس، حتى إنه لم يُكمل أسبوعين في مدرسة بعينها، بحكم تنقل ماري من وظيفة إلى أخرى. الأمر الذي سبب له حرجًا كبيرًا لم يتجاوزه. لم يكن هنالك خيارٌ غير الموسيقى كمهنة لا كهواية، بدأ يلعب الجيتار مع العديد من الفرق الصغيرة في مشهد لوس أنجلوس الموسيقي، انغمس مع فرقة “ريجي” وانتهى الأمر بهم يلعبون خلف يو روي وجودي موات، كان عليه أن يلعب الجيتار طوال الوقت لكسب قوته، ففعل ذلك.

فور انتهاء دراسته، ذهب إلى هوليوود، والتحق بمعهد الجيتار للتكنولوجيا GIT، أحب دراسة النظرية الموسيقية، إلا أن دراسته هناك لا تؤهله ليكون أكثر من موسيقيّ جلسات، لاعب جيتار ثانوي. هذا ما لم يرغب فيه جيف.

في أثناء ذلك، عمل كنادل مسائي بفندق ذا ماجيك كاسيل، وهناك قابل الممثلة بروك سميث للمرة الأولى حين كانت تصوِّر دورها في فيلم ذا سايلانس أوف ذا لامبس، وصارا صديقين. تلك الصدفة لم تمنعه من كراهية وظيفته.

تعرف جيف على الممثل والموسيقي كريس داود عن طريق صديقته عازفة الدرامز، كارلا آزار، كان -وما زال- كريس عازف ترامبون وكيبورد ومغني فرقة فيشبون، التي أسسها في نهاية السبعينات، لعبت الفرقة مزيج من الپانك والفانك والميتال والريجي والسول والسكا. ما جعلها تجربة مناسبة جدًّا لجيف الشاب الذي يبحث عن مكانه، ويسأل الجميع كل يوم “ما هو صوتي الحقيقي؟ هل لي صوت أصلاً؟”

بدأ جيف وكريس وكارلا بلعب الموسيقى معًا بانتظام، أحبوا طاقته وذاكرته الموسيقية الحادة، كان أشبه بجوك بوكس متحرك، كل ما كان على أحدهم فعله، هو ذكر أي أغنية، أي مغني أو فرقة، حتى يرد جيف بالحقبة الزمنية واسم الألبوم، ويقلد أداء المغني والموسيقى بشكلٍ كاريكاتوري عبقري. التقطت أذناه كل أنواع الموسيقى وحفظها عن ظهر قلب، يسمع أي شيء لدقائق معدودة ثم يعيد لعبه أو غنائه كاملاً بلا خطأ واحد.

بالتدريج بدأ يتحول معهم من موسيقي جلسات درس في معهد الجيتار، إلى موسيقيّ شغوف يبدأ أخيرًا في النظر إلى مرآته بلا خوف.

كاد جيف يصير بلا مأوى وقتها، وكان كريس يُحضِّر للسفر في جولة موسيقية مع فرقته، فعرض عليه المكوث بشقته طوال غيابه.

حتى ذلك الوقت لم يكن لجيف باكلي صوت محدد في أغانيه، كتبوا بعض الأغاني معًا، فبدأ باكلي في بناء صوته حول تلك التجارب، وغرق أكثر في ولعه بالموسيقى، سمعها كأنه يكتشفها للمرة الأولى.


٢

تيم باكلي يرسل تحياته

لم ينتمِ جيف إلى أي مكان عاش فيه، لكثرة الترحال والتنقل، لكنه أيضًا لم يعرف كيف يكون نفسه في جنوب كاليفورنيا، لم يجد مكانه بين الناس، “مشى، تكلم، أكل، أحب، هجر ممن عرفهم، كل ذلك كان يحدث بسرعة، ولم يجد مكانه أبدًا”، باع كل ما يملك ورحل إلى نيويورك التي رآها في التلفاز وحلم بها كل ليلة، حيث بوب ديلان، مايلز ديفيز، لو ريد، ومشهد موسيقى متفجر لا ينضب، عرف أن له فرصته هناك، أراد أن يغني، وأن يُسمع.

ذهب إلى نيويورك في فبراير/ شباط ١٩٩٠، لا يحمل إلا جيتاره الصوتي، وبضع أغنيات كتبها في كاليفورنيا. عرضت عليه صديقته الممثلة بروك سميث الإقامة معها بمنزلها في مانهاتن، قَبل على الفور، لكنه لم يملك من المال ما يكفي لشراء سرير لغرفته التي استأجرها بالمنزل، فافترش المرتبة على الأرض، وأحاطها بكل تسجيلاته المحببة. ثم نام.

في نفس الوقت، كان المنتج هال ويلنر يحاول تنظيم حفلة لتكريم تيم باكلي في كنيسة سانت آنز بعد ١٦ عامًا من رحيله، وصلت إليه معلومة أن تيم باكلي كان له ابن يلعب الجيتار ويغني، وأنه يكاد يكون أفضل من أبيه نفسه، لكنهم ظلوا حائرين هل يدعونه للحفل أم لا. ثم جاءتهم مكالمة قصيرة جدًّا منه: “مرحبًا، أنا جيف”.

لسنواتٍ لم يعرف جيف أباه، حتى حين مات، لم يعرف إلا بعدها، لم يدعه أحد إلى جنازته، فلم يستطع وداعه ولم يُذكر اسمه حتى في النعي، رغم ذكر تايلور باكلي، الابن المُتبنَّى لتيم. كانت مشاعره متضاربة حيال تيم، الذي لم يحاول الدخول في حياته، واكتفى بالغناء عنه وعن أمه، فأراد لمرةٍ واحدة أن يقول له شيئًا، أو أن يحاول فهمه، والتواصل معه، أن يحترم ذكراه، فذهب إلى الحفل.

وقف جيف على مسرح الكنيسة حاملاً جيتار فيندر تليكاستر -كان قد استعاره لتوه من جانين نيكولز، مديرة الفنون بالكنيسة، بعد أن سُرق جيتاره قبل الحفل بأيام- وقال: “منذ وقتٍ بعيد، حين كنت طفلاً، جلست أمي على سريرٍ وشغلت هذه الأسطوانة، كانت أول أغنية أسمعها بصوت أبي” وبدأ يضرب على الجيتار في ترددٍ، ثم سحب نفسًا هادئًا،

حتى خرج صوته مغنيًا أغنية “Once I Was“:

“كنت يومًا جنديًا،
حاربت على رمالٍ بعيدةٍ لأجلك،
كنت يومًا قناصًا،
وجئت بالصيد الطازج إليكِ،
كنت يومًا حبيبًا،
وبحثتٌ خلف عينيكِ عنكِ،
وقريبًا سيأتي غيري،
ويخبرك بأني كنتٌ كذبة،
أتساءل أحيانًا،
لبعض الوقت،
هل تتذكرينني يومًا؟”

وتحولت الحفلة تلقائيًا من تكريم باكلي الراحل، إلى حفل انطلاق باكلي الحيّ.

بينما كان الناس لا يزالون يحاولون إدراك حقيقة أن نصف الإله البريء هذا الذي يقف على المسرح هو ابن تيم باكلي، معبود الفولك الراحل، العربيد المُجدد غزير الإنتاج الذي لم يكف يومًا عن التجربة، تيم باكلي الذي رحل فجأة بلا مقدمات في أعلى ارتفاعات مسيرته.

في عينيه تلك الرغبة اللانهائية في المعرفة، صوته نيران تشتعل فجأة ولا تُضرم أبدًا، صرخات متتالية تكسِّر كل الحواجز إلى الروح، تُسقط كل الدفاعات، فيضربك صوته بلا رجعة، ثم يتجاوزك، ولا تنساه.

“حين أغني، أشعر أنني حقيقي، أشعر كأنما أبكي، أقع في نقطة المنتصف، بين الضحك والفرح العارم والبكاء. أكون في أفضل حالاتي حين أغني”.

لم يكف عن الغناء، كأنما استحضر أسرار الكلام بعد عقودٍ من الصمت، غنى “I Never Asked to be your Mountain“ التي كتبها تيم عنه وعن أمه بعدما هجرهما. كأنه استحضر كل ما يميِّز تيم، ثم قتله بضربةٍ واحدة وزاد عليه أضعافه. حين انتهى لم يكف الحضور عن التصفيق والصراخ.

كان جاري لوكاس يلعب الجيتار خلفه، بلا كلل أو تعب، بعدما دعاه هال ويلنر للمشاركة في الحفل.

حين نزل عن المسرح كان غارقًا في دموعه من ثقل اللحظة، التف حوله الجميع، أحاطت به الأعين كلها، أراده كل من بالمكان، انهالوا عليه بكروتهم، أصبح جيف مقبولاً في كل مجتمع نيويورك الموسيقيّ، لكنه لم يكن ملتفتًا إلا إلى ربيكا موور، التي وقع في حبها لتوه، كان جيف هناك ليبقى.

لم يفهم البعض كيف كان ذلك اليوم ثقيلًا على جيف، الذي لم يرد يومًا الشهرة، لأن إعلان وجوده للناس وتضحيته بمجهوليته بمثابة بداية للمقارنات بينه وبين والده تيم باكلي، ما أقلقه أكثر هو أن يقارن بشخص لا يعرفه، ولم تسنح له الفرصة أبدًا ليقترب منه أو يفهمه، كان الأمر أشبه بسباقٍ مع الظل.

ورث عنه عينيه الشاردتين، وتلك الروح المعذبة وذلك الصوت التينور الناعم ذا الأوكتافات الخمسة، ورث عنه موهبة جارفة، وولعًا لا يجف بالموسيقى وتقفي أثرها.

كانت المقارنة حتمية ومفهومة إلى حدٍّ كبير رغم دفاعية جيف تجاهها، فقد كان تيم باكلي موسيقي فريد من نوعه، من ناحية الصوت والأداء والعزف على الجيتار وحالة الألحان، دمجت موسيقاه الفولك في الجاز والفانك والبلوز والسايكديلك روك، والأفانت-جارد.

امتلك من الموهبة ما يكفي ألا يكف يومًا عن الغناء على طول مسيرته القصيرة جدًّا، 9 ألبومات في 8 سنوات. ورغم كثافة ما قدمه، اعتبر الجميع ذلك مجرد بداية، تطرق بابًا لمسيرة فنية أكثر صخبًا وجماهيرية وتفجرًا في المستقبل. وهو ما لم يحدث أبدًا. حين رحل تيم أغلق باب الاحتمالات، وظل الناس متعطشين لذلك الغيث الذي لم ولن يجيء.

ثم ظهر جيف باكلي من حيث لا يعلمون، امتلك نفس الأدوات والقدرة والصوت والشغف والفضول والعفوية، فما كان لهم إلا التوجه إليه، آملين فيه أن يكون امتدادًا لمن رحل، وبدأت المقارنات بالسلب والإيجاب تحاصر جيف، وتجبر على ملاحقة إرث والده الراحل، بل والتفوق عليه.

خلال الأشهر التالية، كان جيف يسافر إلى لوس أنجلوس على فتراتٍ متقاربة، يلتقي كريس داود وكارلا آزار، يحكي لهما عن حبيبته ويسألانه عما غنى في حفل سانت آنز. كان الموسيقي پول بوشنيل قد نفذ الموسيقى التصويرية لفيلم يدعى “The Commitments“ عن فرقة سول إيرلندية، ولأن الممثلين لم يكونوا عازفين، كان على پول إيجاد فرقة لتسافر خلال جولة ترويج الفيلم، فساعده كريس في ذلك، وضم جيف على الجيتار وكارلا على الدرامز، مع آندرو سترونج مغنيًا أساسيًّا.

كان المغني الإيرلندي جلين هانسارد أحد ممثلي الفيلم، لم يمر وقت طويل حتى صار هو وجيف صديقين، وتكريمًا للرابط المشترك بينهما بحكم كون والد جيف من أصل إيرلندي، دعا دلين جيف إلى مقهى إيرلندي صغير بنيويورك، يدعى “شانيه”.

عند نقطة ما، أدرك جيف أن كريس لن يترك فرقته أبدًا، في حين أن لكارلا عروضها مع ميك جاجر، فقرر في صمتٍ تجاوز طموحه الموسيقي معهم والعودة إلى نيويورك.

في أثناء ذلك، اتصل جاري لوكاس بجيف في لوس أنجلوس، وأخبره أنه كتب لحنين، “Rise up to be” و“And you will” وأنه يطمح إلى أن يكوِنوا فرقة كبيرة، تذهب إلى كل الأماكن وتفتح الاحتمالات، أن يصيروا مثل لِد زپلين. سُحِر جيف فور سماعه اللحنين، وقرر الذهاب فورًا إلى نيويورك للعمل مع لوكاس عن قرب.

دخل جيف إستديو كرپتون بدفتره الصغير، وقعد بجانب لوكاس وهو يلعب لحن “Rise up”، وخلال ثوانٍ معدودة خرجت الكلمات منه بسلاسة لم يشهدها لوكاس مع أحد من قبل. بدأ جيف يكتب ويردد ما كتبه بنهم، ثم بدأ التسجيل ولوكاس لا يصدق ما يرى أو يسمع. لأن جيف لم يتكلم، لم يقدم تعديلات على اللحن، بل احتوى كل نوتة فيه كأنه حفظها عن ظهر قلب، وامتلك تصورًا كاملاً عما يريد، لتصير لاحقًا أغنية “Grace”، وصار اللحن الثاني أغنية “Mojo Pin”.

في العينة الأولى من “Grace” لم يطلق جيف كامل العنان لصوته، تحرك بسرعة ومرونة أدائية مع جيتار لوكاس، كأنه يلاحق صوته حتى لا ينساه. لعب جيف الهارمونيكا لسد مكان جيتاره مؤقتًا في الممر بين الكورس وكل ڤيرس.

في عينة “Mojo Pin”، وبعد ثوانٍ معدودة من دخول الجيتار، يردد جيف: “هذه الأغنية عن حلم حلمته”، في ذلك الحلم يُفتن بفتاة سمراء، شعرها أسود كالفحم، يشبه أثرها بدبوس السحر، يدمنها ولا يجد مفر من التسليم بحتمية انتظارها حتى تعود لفراشه، وتلمسه فيكتمل مرةً أخرى.

أما عن فرقة لوكاس التي حلم بها، فسماها “Gods & Monsters“، لتضم بالنهاية: جيف باكلي، جاري لوكاس، جيري هاريسون، بيلي فيكا، ريتشارد بارون، إيرني برووكس. كانت الأجواء شديدة الألفة والحدة في آنٍ. قدّم لوكاس جيف في مهرجان CMJ، ليغني أمام جمهور يتضمن: نِك كايف، و جون كايل. ثم لعبت الفرقة أول عروضها في ملهى “The Knitting Factory” ببروكلين.

بانتهاء العرض، بدأ جيف يشعر بصعوبة العمل مع Gods & Monsters، تلك الحدة تحولت إلى تنافسية صارمة بين أعضاء نفس الفرقة. تلقى لوكاس مكالمة انسحاب جيف وهو يسمع تسجيل الحفلة منتشيًا من لذة تحقق الحلم الذي سعى له، بالطبع تحطَّم مكانه حزنًا، لكنه تفهَّم الموقف، ولم تتأثر صداقتهم وتعاونهم الموسيقيّ اللاحق أبدًا بهذا الرحيل المفاجئ.


٣

شانيه

غرق جيف في كل أنواع الموسيقى، من الروك والميتال والسمفونك والبلوز والجاز والقوالي والسول، وأخذ ينضج أسرع يوميًّا، يسمع ويتعلَّم. امتص كل الأصوات واللغات والجنرات ثم كوَّن منها لغته للتواصل مع العالم، وبدأ يحدد له صوتًا واضحًا، صوتًا تعبر منه تراكيب مشاعره التي لا يجد لها ما يكفي من الكلمات، بابًا لأن يصرخ، يغضب، يضحك، يسخر، يحب.

في الأول من يونيو/ حزيران من العام التالي، وقف جيف يغني في مقهى شانيه للمرة الأولى، واستمر في تقديم عرضه أسبوعيًّا. قسَّم وقته بين صناعة القهوة للزوار، والغناء. في العروض الأولى كان الحضور أحيانًا لا يزيد على خمسة أو ستة أفراد، في مكانٍ سعته ٤٠ فردًا، وهو ما لم يؤرق جيف أبدًا، لم يكن يغني للجمهور، بل كان يتعرى، يُعبّر عن ذاته كأن لا أحد يراه. لطالما تمنى ألا يراه الناس، ألا يعرفوا منه إلا صوته، أو يسمعوه فقط.

استمرت العروض لساعاتٍ طويلة، من التاسعة مساءً وحتى الثانية صباحًا. غنى فيها جيف بلا تعب أو قلق، غنى جيف كل الأغاني التي كانت تخطر على أفكار الحاضرين.

كان من العادي في عروض جيف أن تسمعه يغني أغنيات ذا سميث، كوكتو توينز، سوسي سو، نينا سيمون، إلڤيس پريزلي، بيلي هوليداي وبعض أغاني البلوز، وبعضًا من الريجي، ثم ينتقل بأريحية غير مفهومة لأعمال الموسيقار الباكستاني ومغني القوالي نصرت فاتح علي خان. نصرت كان مغنيًا أسطوريًّا، امتلك صوتًا حادًّا ذا قدراتٍ استثنائية، ذهب به أينما شاء، ولم يحاول أحد الاقتراب منه، إلا جيف باكلي. حفظ جيف أغاني نصرت بالباكستانية، التقط أساليب الأداء والعُرب، تشكَّل صوته كالصلصال، حتى إنه عندما بدأ الغناء له في شانيه، كانت الأغنية تستمر إلى ١٥ دقيقة أو أكثر.

ما فعله جيف باكلي في شانيه هو إعادة خلق لكل تلك الأغاني، لكل هؤلاء المغنين الذين أحبهم ولم يجد وسيلة للتواصل معهم أقرب من ذلك، لم يكن غناؤه عاديًّا بأي مقياس، كانت تجربة روحانية خالصة، بمجرد أن تسافر عبرها، يتغيَّر كل شيء.

خلال أيام، ذاع صيته وبدأت الأعداد تتزايد بالتدريج كل اثنين في شانيه، فتح المكان أبوابه لتسع الواقفين بالخارج بعد أن امتلأ. جاء البعض على معلومة أن ابن تيم باكلي يغني في شانيه، وأن له صوتًا ملائكيًّا، البعض الآخر لم يعرف تيم وأتى بحثًا عن التجربة.

وقف باكلي بين الأغاني يمزح مع الحضور، يلقى النكات، يقلد موسيقييه المفضلين، ويسأل الناس عن الأغاني التي يريدون سماعها، كانت غالبية عروضه في شانيه لأغانٍ يحبها لموسيقيين آخرين. لم يمتلك جيف وقتها أغاني أصلية تكفي ٥ ساعات من العرض الحيّ.

خلال أيام، وصل الخبر إلى عدة شركات إنتاج، وامتلأت الساحة أمام شانيه بسيارات الليموزين، أقسام بكاملها من كل شركة أتت لمشاهدة جيف، حتى اكتظ المقهى الصغير بثلاثة أضعاف سعته ووقف الناس يشاهدونه من الشارع.

لم تكن لجيف أغنيات أصلية آنذاك، ولا عينات جاهزة ولا فرقة، لكن ذلك لم يمنعهم من التنافس عليه. كانت شركة كولومبيا ريكوردز، التابعة لسوني، تسعى بكل الطرائق لتنال توقيع جيف، كانوا مفتونين به بقدر لم يخفوه، من رئيس الشركة دوني إينر، ستيڤ بيركويتز، مسؤول الـ A&R، وحتى ليا ريد مديرة المنتَج آنذاك.

في الوقت نفسه كان جيف يرهب النمو بهذا الشكل، أدرك جيدًا كيف تصطاد شركات الإنتاج الموهوبين الصغار ثم تفني أصواتهم بعقودٍ مجحفة تنزع عنهم حريتهم الإبداعية، رأى ذاته في نفس المصير، هذا ما أدركه جورج ستين، مدير أعمال جيف ومحاميه آنذاك. كتب جورج عقدًا مُحكَمًا لجيف، حفظ له حقوقه الإبداعية وأعطاه حقوقًا واختيارات لم تكن متاحة لأي موسيقي في ذلك الوقت من الذين لم يكن مسموحًا لهم بتحديد أغلفة إصداراتهم.

كان الاتفاق ينص على أن يوقعوا مع جيف عقدًا، ثم يتركوه لمدة عام كاملة ليكتب ألبومه، هذا ما لا يحدث أبدًا في شركات الإنتاج. كان لجيف ما أراد فعلاً، وفي أكتوبر/تشرين الأول ١٩٩٢، وقع جيف باكلي مع كولومبيا ريكوردز وستيڤ بيركويتز عقد إنتاج ٣ ألبومات، بقيمة مليون دولار.

مرت بضعة أشهر، بدأت الأعين في كولومبيا تتجه مرةً أخرى نحو جيف الذي كان من المفترض أن يكون بدأ كتابة إصداره الأول، وجيف لا يزال غير قادر على تحديد ما يريد، كل الخيارات متاحة أمام موهبة بهذا الحجم، لم يعرف هل يريد فرقة كبيرة، أم مشروعًا فرديًّا، أم مشروع ريجي، أم أراد الغناء في مسرحية، أم عزف الكونترباص في فرقة جاز، أجاد جيف لعب العديد من الآلات بجانب الغناء، وكان الأمر مبهمًا إلى حد بعيد.

حجز ستيڤ بيركويتز إستديو “شيلتر آيلند” ٣ أيام، حتى يؤدي جيف تجارب الغناء، علَّ وجوده هناك يحدد لهم اتجاهًا. كان جيف متوترًا للغاية؛ كان ذلك أول تسجيل له لحساب كولومبيا، ما جعله غير قادر على الغناء كما اعتاد. طاوعوا رغبته، مدوا حجز الإستديو يومين آخرين، حتى سجل جيف ٥٠ أغنية، حصيلة كل ما خطر في باله، وقتها فقط بدأ يشعر بالارتياح وانبسط غنائه.

لأن جيف كان قدّم الكثير من العروض الحيَّة بالفعل، لمعت فكرة أن يكون الإصدار الأول ألبومًا صغيرًا من ٤ أغانٍ ضمن تسجيل حيّ من شانيه، أيضًا بدا تنفيذها أسهل، لن يحتاج جيف إلى كتابة عدد من الأغاني الأصلية بعد.

سُجل “لايف آت شانيه” على مرتين، في الأولى استشعر جيف الضغط، لم ينبسط صوته بما يكفي ليكون جيف باكلي. أخبره ستيڤ وقتها أن التسجيل رائع وأن عملهم انتهى، لكن لم يحاول إسماعه النتاج، ثم اقترح أن يلعبوا نفس العرض مرةً أخرى خلال شهر.

في المرة الثانية لم يحضر ستيڤ ولا مسؤولو التسجيل في الغرفة، لم ير جيف معدات التسجيل لأنها كانت مخفية في مجرى التكييف، كان في مخيلته أن التسجيل قد انتهى بالفعل منذ شهر، وأن ما يقدمه هو عرض عادي لجمهور شانيه الأسبوعي. نتج عن ذلك التسجيل الأخير غالب الإصدار.

خرج الإصدار النهائي بأربعة أغنيات، أغنيتين أصليتين لباكلي، “موجوپن” و”إيترنال لايف”، ونسخة إنجليزية لأغنية إيديث پياف “Je n’en connais pas la fin” وأغنية “ذا واي يانج لافرز دو” لفان موريسن.


٤

جرايس

خلال جولته القصيرة للترويج لـ“لايف آت شانيه”، تدارك جيف فجأة مرور الوقت واقتراب الموعد المحدد، تم اختيار المنتج الكبير آندي والاس، للعمل مع جيف مع على ألبومه الأول المُنتظر.

كان آندي والاس، قبل التعاون مع جيف، أنتج وعمل كمهندس صوت مع عدة فرق، أهمها نيرفانا، سلاير، سونيك يوث، رايدج أغينست ذ ماشين، فيشبون، باد ريليجن.

بدأ جيف كتابة ما تبقى من الأغاني، والبحث عن موسيقيين لفرقته. رشحت له ريبيكا مور عازف الدرامز مات جونسن، ورشح هو عازف الباس مِك جروندال، وانضم إليه عازف الجيتار مايكل تاي لاحقًا.

حمل الألبوم اسم جرايس، تلك الأغنية التي كتب لحنها جاري لوكاس عام ٩١، ليكتب عليها كلماته وتصبح أهم أغنية أصلية في مسيرته القصيرة. حين سُئل جيف عن معنى الأغنية قال:

“الأغنية عن عدم الخوف من الموت، أو أي من تلك المصاعب التي نعانيها على هذه الأرض، لأن هناك أحدًا يحبك. لا تخف الرحيل، لا تخف الصمود في وجه ما تواجه لأنك تشعر بذلك الوقود الهائل يتجدد داخلك، بفعل حب أحدهم لك (…) التسامي هو ما يهم في كل شيء، تحديدًا الحياة، النضج، المأساة، الألم، الحب، الموت. التسامي خصلة مثيرة للدهشة، تُبقي المسدس بعيدًا عن رأسك، وتحميك من حماقة تدمير الأشياء من حولك”.

كتب جيف أغنية “دريم براذر”، وأهداها إلى صديقه كريس داود، مؤسس فرقة فيشبون، ورفيق رحلته في لوس أنجلوس. وجه عتابه مباشرًا إلى كريس، بعدما ترك حبيبته وهي حامل في طفله:

“لا تكن كالذي جعلني أشيب
لا تكن الذي ترك اسمه ورحل
لأنهم ينتظرونك كما أنتظره
ولم يأتِ أحدٌ أبدًا”

خلال تسجيل الألبوم، قررت ريبيكا إنهاء علاقتهما فجأة على أن يظلا صديقين مقربين، فكتب جيف حزنًا وغضبًا أغنية “فورجيت هير” ثم قرر سحبها في آخر لحظة، ولم تفلح محاولات مسؤولي كولومبيا المستميتة في إقناعه بالعدول عن ذلك القرار. لم تصدر الأغنية إلا بعد رحيله:

“حبها زهرةٌ، شاحبةٌ تحتضر،
تبعثر بتلاتها في أرضٍ مهجورة”

تأثرًا بعلاقته وريبيكا، كانت أيضًا أغنيته “Lover, You Should’ve Come Over” فكتب مدركًا أنه لم ينضج بما يكفي في علاقته كي يحافظ عليها، وأنه عندما يفكر فيها يدرك أنه أضاع الحب الوحيد الذي رغب أن يدوم:

“لعله ما ازال صغيرًا للغاية
لأحفظ حبي المخلص من الضياع”

ضم جيف نسخته من أغنية “ليلاك واين” لنينا سيمون، وانضم إلى قائمة الموسيقيين الكثيرين الذين غنوا لنينا.

تتقارب الأغنية التي كتبتها جايمز شلتون في خمسينات القرن الماضي مع حالة الألبوم، ما بين الحزن على فقد المحبوب، ومحاولات التسامي وإيجاد السلوان بين كاسات النبيذ.

كتب الشاعر العظيم والمغني الكندي لينارد كوين قصيدته هاليلويا على ٤ سنوات، بإجمالي ٨٠ مسودة، ضمها إلى ألبومه “ڤارياس پوزيشنز” عام ١٩٨٤، ليغنيها جون كايل بعده في ألبوم تكريمي للشاعر الكندي بعنوان “آي آم يور فان“.

كان جيف محبًا مخلصًا لأعمال جون كايل. حين اشترى الأسطوانة، لم تفارقه “هاليلويا” فقرر أن يقدمها بصوته في عروضه الحيَّة، ولاحقًا وجدت مكانها في ألبومه جرايس.

آخر كاڤر في الألبوم كان أغنية “كوربوس كريستي كارول” للملحن وعازف الپيانو البريطاني، بنيامين بريتن:

“هي قصة خيالية عن صقر أخذ محبوبة المغني إلى بستان بعيد. فظل يبحث عنها، ووصل إلى حجرة ليجدها تقعد أمام فارس غارق في دمه، وقبر بداخله جسد المسيح. عرفني صديقي روي على هذه الأغنية بالمدرسة، وأنا الآن أغنيها له”.

كتب جيف أغنية وداعه دون أن يقصد، حين قال “قبليني رغبةً لا مواساةً” في “ذا لاست جودباي”، حين وقف مرةً أخيرة أمام حبيبته، يخبرها بأنه سلَّم بالنهايات رغم قسوتها، يحضنها مرةً أخيرة حتى لا ينسى دفئها، يقبلها وداعًا برغبةٍ، بلا عزاء أو مواساة. بتسليمٍ خالص بأنه لن ينسى، ويظل حبيس تلك اللحظة، لا شيء سواها.

صدر الألبوم في ٢٣ أغسطس/ آب ١٩٩٤، في مشهد موسيقي يتصارع فيه الغرانج المأزوم برحيل كيرت كوبين، مع البريتپوپ، وفرض نفسه حتى مع بطء مبيعات الألبوم في السنة الأولى. بدأ جيف جولته الترويجية حول العالم، وبنهايتها بدأ العمل  على أفكار لألبومه الثاني: Sketches for My Sweetheart, The Drunk، قبل رحيله المفاجئ، تاركًا إرثًا موسيقيًّا هائلاً، عن مسيرة فنية قصيرة للغاية، غيَّرت وجه الروك للأبد.