ديفيد بووي، حيث لم يكن متجسِّدًا

تنويه: يعمل رفيق محفوظ حاليًا على ملف سردي طويل جديد من خمسة فصول حول مسيرة ديڤيد بووي. فور الانتهاء منه، سيتم حذف الملف أدناه واستبداله كليًا

١/٢

بحلول عام ٢٠٠٣، وبعد إصدار ألبومه «رياليتي»، كان بووي قد أتم عامه السادس والخمسين، وقد أظهر عزمًا مبدئيًّا على تقديم جولته الموسيقية الأضخم والأطول من حيث عدد الحفلات: ١١٢ عرضًا على مدار ١٠ أشهر.

خلال حفلات تلك الجولة الممتدة، بدا بووي أكثر حيويةً وشبابًا مما يعرفه الجميع، لم تظهر عليه علامات العجز، دارَ بين أربع قارات ليغني كما لم يغنِّ من قبل، يمر على كتالوجه الموسيقي الغني بكل مراحله من أول السبعينيات حتى آخر إصدارته. كانت العروض تطول إلى ساعتين ونصف، لكن ما ميّز الأمر حقًّا كان أنه خرج على الجميع كديڤيد بووي، دون أيٍّ من تلك الشخوص التي اعتاد التخفي وراءها، حتى أن إيرل سليك، عازف الغيتار الذي شاركه أكثر من ٤٠ عامًا من مسيرته، لم يذكر أنه رأى بووي سعيدًا مرة في حياته كسعادته خلال تلك الجولة.

«أكون آلةً خارج المسرح، بينما عليه أجد مشاعري، ربما لهذا أفضِّل أن أظل في ثوب زيغي على أن أكون ديڤيد بووي». سال، ٧٢

«حمّسه أداء العروض كل ليلة كثيرًا، لكنه قال لي مرة: بصراحة، أنا مُتعَب. وقال صديقه ومنتجه، توني ڤِسكونتي: أعتقد أنه حقق كل أمانيه وأحلامه، وربما تخطى الأمر إشباعه».

بدا الأمر كأنه أخيرًا لا يريد ذلك التخفي الذي اختاره طوال حياته، وصل إلى تلك المرحلة وشعر أخيرًا بالحرية أن يكون ما هو دون الأقنعة الجادة التي لطالما وضعها، فخرج مرحًا عفويًّا شابًّا لا يهتم بما قد يظنه الناس، بدت الحياة أخف هذه المرة.

خلال النصف الثاني من عرضه في التشيك، وبينما كانوا يؤدون أغنية «رياليتي»، كان يُفترض ببووي أن يغني بعض المقاطع في نهاية الأغنية، لكنه لم يفعل. كانت غيل آن دورسي، عازفة البايس في فرقته، تراقب المشهد وتلعب خلفه كعادتها، الجميع يغرق عرقًا لحرارة الجو، لكن قميص بووي بدا كما لو كان منقوعًا. يحمل الميكروفون بيده اليسرى مفرودة، ويقف هناك متخذًا وضع الغناء ولا يغني. رفع وجهه عن ذراعه ونظر إلى غيل، شاحبًا، يكاد يكون شفافًا. كانت عيناه أوسع، يحاول جاهدًا التقاط أنفاسه، توقف الجمهور عن الرقص وخيّم القلق على الجميع.

في اللحظة ذاتها، تحرك حارسه الشخصي ومساعد المسرح، توجها إليه وسحباه خارج المسرح سريعًا. عاد بووي بعد دقائق وقد طلب مقعدًا، جلس واستكمل الغناء. لطالما كره إلغاء العروض.

في العروض التالية، لم يُبدِ أي اهتمام بملابسه، لم يُظهر أي تفاعل مع الجماهير، أدى الأغاني سريعًا وعادت الجدية على ملامحه مرة أخرى. التقطته كاميرات بعض الحضور يمسك كتفه متألمًا، كان أكثر إعياءً حتى أنه كان يضع كيسًا في خلفية المسرح ليخرج يتقيأ فيه بين أغنية وأخرى. رفض كثيرًا إلغاء أيٍّ من العروض، ولم يعرف أحد أعضاء الفرقة بإصابته بأزمة قلبية إلا بعدها بخمسة أيام.

بعد الحفل الأخير في الجولة، افي هامبورغ، خرج بووي والجميع خلفه، وبمجرد نزولهم تهاوى أرضًا. هرعوا به إلى المستشفى، ليجرى جراحة عاجلة وكانت هذه النهاية، كانت الجولة الأخيرة.

انسحب بووي بعد تلك الجولة لمدة عامين، لم يقدم حفلًا كاملًا، ظهر بشكلٍ محدود في مشاركات معدودة، لكنه في عام ٢٠٠٦ شارك مرة جنبًا إلى جنب مع «ديڤيد غيلمور»، ثم أدى بضع أغنيات حفل خيري بمشاركة إليشا كيز وفريق أركايد فاير.

كان قد أعلن أنه فقط يمنح نفسه قسطًا من الراحة لمدة عام. تجنب تسجيل أي إصدارات جديدة، لكن ذلك لم يمنعه من مشاركة المخرج كريستوفر نولان فيلمه «ذ پرستيج» عام ٢٠٠٦، ثم اختفى مرة أخرى، واستمر تلاشيه عن الساحة الغنائية لما يقارب عشرة أعوام، تغيَّر في خلالها كل شيء.

بووي متجسِّدًا، عودة إلى البدايات

تعرض لإصابة شديدة في عينه اليسرى، إثر شجار على فتاة مع صديقه جورج أندروود، لم يكن معالجة الأمر كليًّا ممكنًا، فصارت الإصابة المستديمة تفسر اختلاف لون حدقتي عينيه التي طالما عُرف به.

في منتصف ستينيات القرن الماضي، بدّل «ديڤيد روبرت جونز» اسم شهرته إلى ديڤيد بووي، نظرًا للحيرة التي سبّبها تشابه اسمه مع داڤي جونز مغني ذ مونكيز، واختار «بووي» نسبةً إلى جيمس بووي، البطل القومي لولاية تكساس الأمريكية إبان ثورتها في القرن التاسع عشر.

كان لديڤيد توجهات فنية متعددة قبل مسيرته الغنائية، بداية من كونه فنانًا تشكيليًّا حتى قبل أن يشتغل بكتابة الأغاني. أحب الجاز منذ الصغر، وكذلك موسيقى جون كولترين، حتى اشترت له أمه غرافتون ساكسفون.

وقتها، كاد بووي يبدأ التدريب على يد أحد موسيقيي ساوث لندن الماهرين، إلا أنه تعرض لإصابة شديدة في عينه اليسرى، إثر شجار على فتاة مع صديقه جورج أندروود، لم تكن معالجة الأمر كليًّا ممكنة، فصارت الإصابة المستديمة تؤثر في تمييز عينه اليسرى للأبعاد، وهي نفسها تفسر اختلاف لون حدقتي عينيه التي طالما عُرف به.

استكمل دراسة الجاز لاحقًا وتمرّس في لعب الساكس، بل صار مصدر رزقه لبعض الوقت. بقي للجاز موضع مكثف في موسيقاه، لم يكف أبدًا عن العودة إليه في إصدارته اللاحقة من حين إلى آخر.

عندما اتجه بووي إلى الغناء، لم يحالفه النجاح كضربة بداية. وهو في الخامسة عشرة، أسس مع صديقه جورج أندروود أولى فرقه الموسيقية، ذ كوناردز. كان عازفًا للساكسفون، ثم بدأ لاحقًا يلعب الغيتار. لعبوا الروك آند رول في الأفراح وتجمعات الشباب، لكن لم يستمر الأمر كثيرًا لعزم بووي الجاد على أن يصبح پوپ ستار. لم يجد في فرقته ما يحمسه فرحل وانضم إلى فريق آخر، ذ كينغ بييز.

كان بووي يأمل كثيرًا في أن يساعده رجل الأعمال الإنجليزي جون بلووم بعلاقاته الواسعة، فكتب له يطلب منه أن يفعل معه ما فعل مع «ذ بيتلز»، حين دعاهم للغناء في بدايتهم في حفل نظمه في بيته، ومن هنا جاءهم أول عقد إنتاج موسيقي.

لم يرُد بلووم على رسالة بووي، لكنه رشحه لـ«ليز كون»، مساعد المنتج الموسيقي دِك جيمس، فتعاقد بووي مع مدير أعماله الأول. أصدر أغنية واحدة مع «ذ كينغ بييز» ورحل سريعًا لعدم تحقيق أي نجاح تجاري، إلى فرقة ذ مانيش بويز، وأصدر أغنية واحدة لم تحقق نجاحًا تجاريًّا، فرحل إلى ذ لوور ثيرد، ولكن دون أمل واحد في التطور أو الوصول لجمهور أوسع.

بشكلٍ راديكالي، رحل بووي عن تلك الفرقة، أنهى عقده مع مدير أعماله ليز كون، تعاقد مع رالف هورتون ليحل محله. في الوقت نفسه، اتجه إلى فريق يلعب الجاز، أصدر معهم خامس أغنية فردية لم تلقَ نجاحًا تجاريًّا. عرّفه هورتون إلى كين بت، الذي حل محل هورتون لاحقًا مديرًا لأعمال بووي، واتجه به أخيرًا نحو مساره الموسيقي الفردي.

قابل بووي «ڤينيس تايلور» في منتصف الستينيات، بعدما أهلكه الحب فأدمن المخدرات وانضم إلى جماعة دينية، ثم أعلن نفسه إلهًا فضائيًّا جاء ليحرر الأرض، قبل أن يخرج على المسرح مرةً في إحدى حفلاته بفرنسا ليصرخ في الناس أنه المسيح وينتهي مساره الموسيقي إلى الأبد.

في عام ١٩٦٦، تعرّف بووي إلى الاستعراضي الطليعي «ليندزي كيمپ»، وبدأ دراسة الفنون المسرحية تحت إشرافه، من المسرح الطليعي مرورًا بالتمثيل الصامت والكوميديا الارتجالية.

كانت تلك النقطة الأولى والأهم في مساره الفني، أدرك حبه لخلق الشخصيات والتواصل مع ذاته عبرها. منذ ذلك الحين ظهر بووي الراديكالي، كان يجمع القطع والتفاصيل من كل مكان، وكأنها قطعًا من البازل، هكذا كانت لكل شخصياته قصة وانعكاسات واقعية وأحيانًا أفراد بعينهم.

بهذا بدأ بووي يمهد المشهد الموسيقي لنزول الإله الفضائي من السماء، «زيغي ستاردست»، كواحد من أكثر آلهة الروك تأثيرًا في أجيال السبعينيات، ونقطة التحول الأضخم في مسار الأيقونة الأعظم والأكثر صداميةً وتأثيرًا في مسار الغلام روك.

بدأ الأمر عندما قابل بووي مغني الروك آند رول البريطاني «ڤينيس تايلور» عدة مرات في منتصف الستينيات، بعدما كان الحب قد أهلكه فأدمن المخدرات وانضم إلى جماعة دينية، ثم أعلن نفسه إلهًا فضائيًّا جاء ليحرر الأرض، قبل أن يخرج على المسرح مرةً في إحدى حفلاته بفرنسا ليصرخ في الناس أنه المسيح وينتهي مساره الموسيقي إلى الأبد. هكذا صار تايلور ومأساته أولى القطع في حلقات زيغي.

خلال سنة زيغي الأخيرة، أعيد طرح وتصوير رائعة بووي الملحمية “لايف أون مارس؟” كأغنية فردية، لتلق نجاحها الأعظم وتصبح واحدة من أهم ما عرفه الناس لبووي. جاء الطرح الثاني بعد طرحها ضمن رابع ألبوماته “هونكي دوري” عام ٧١. كتب بووي تلك اللوحة السريالية تأثرًا بهجر محبوبته، هيرميون فارثينغايل.

خلال إحدى عروض جولة ألبوم «هونكي دوري»، دخل على بووي أحد موظفي شركة الإنتاج «ميركوري ريكوردز»، أعطاه اسطوانة لمغنٍّ مغاير جدًّا في أدائه، وقال له إن عليه الاستماع إلى هذا الرجل فعلًا. كانت الاسطوانة لـ«ليجندري ستاردست كاوبوي»، أحد أهم رواد الروك السيكوبيلي. أُعجب بووي بالرجل وولعه هو الآخر بالفضاء والخيال العلمي، أحبه لدرجة أن يأخذ عنه اسمه.

خرج زيغي إلى العالم مع فريق «سپايدرز فروم مارس»، في ثاني إصدار يجمعهم ببووي بعد «هونكي دوري» بعنوان «ذ رايز أند ذ فال أوڤ زيغي ستاردست» في يونيو ١٩٧٢.

يشرح بووي أن معظم شخوص الروك التي خلقها لها دورة حياة قصيرة: «لا أعتقد أن باستطاعتها البقاء ألبومًا وراء الآخر. لا أريد أن يغلب عليها الحس الكارتوني». انتهى زيغي بشكل درامي حين أعلن بووي انفصاله عن عناكب المريخ أمام الحضور خلال عرض لندن، في يوليو ١٩٧٣.

رحل في بداية العام اللاحق إلى نيويورك ومنها إلى لوس أنجلوس، حيث بدأ العمل على ألبومه «دايموند دوغز»، الذي قدم فيه محاكاة حيوية لديستوبية جورج أورويل الشهيرة «١٩٨٤». خلال تلك المرحلة أدمن بووي الكوكايين بشكل ملحوظ أثر كليًّا في شكله الخارجي، وتزامن ذلك مع تحوله إلى شخصية «الدوق الأبيض النحيف». كان الدوق الأبيض نابعًا من شخصية «توماس جيروم نوتين»، الفضائي بشري الجسد الذي قدمه بووي في فيلمه «ذ مان هو فِل تو إيرث».

تلاشى الحاجز بينه وبين الشخصية حتى أنه انعزل نفسيًّا عن واقعه، انجرف بشكل حاد نحو إدمان الكوكايين، تدهورت حالته الصحية والنفسية، خسر نحو ٢٠ كيلوجرامًا من وزنه، انعدمت رغبته في النوم، عمل بشكل مكثف في الستوديو. ظهرت عليه اضطرابات سلوكية ونفسية انعكست على صورته في الإعلام وعلى المسرح، من خروجه مرةً لإبداء إعجابه بأدولف هتلر، ووصفه اليسار بالتيار الفاشي في حواره مع مجلة «پلاي بوي» عام ١٩٧٦.

كان ألبومه المكثف الصارخ «ستيشن تو ستيشن»، الذي سجله عام ١٩٧٥، ابنًا لهذه الفوضى وتلك الغيبوبة الطويلة، حتى أن بووي لم يتذكر أبدًا ظروف إنتاجه أو سياق تسجيله. وصف لاحقًا ما كان عليه من تأييدٍ للفاشية بأن «الدوق الأبيض» تملّكه، وأن وعيه غاب كليًّا بفعل المخدرات خلال تلك المرحلة.

سجل بووي عبر ذلك الإصدار وعيًا حادًّا بصراعه بين أن ينجرف شعوريًّا في تجارب أكثر عمقًا وكشفًا لأبعاده الإنسانية، أو أن يتخفي كليًّا من صفاته الإنسانية تحت كينونته الفضائية المخيفة، ويبقى بمعزل مستمر خارج ذلك العالم. التحرك من اتجاه إلى الآخر، من تاج الملك إلى الملكوت، على صليب المسيح، محطمًا قلوب المحبين دون أمل في عودة اتصاله بدواخله الإنسانية.

بووي، إينو، فريپ: ثلاثية برلين والموجة الجديدة

خلال تعافيه من الإدمان، رحل بووي مع «توني ڤسكونتي» وإيغي پوپ وبراين إينو إلى برلين، تعرّف هناك إلى روبرت فريپ، عازف الغيتار ومؤسس فريق كينغ كرمسن، وبدؤوا جميعًا العمل معًا.

على إثر ذلك جاءت ثلاثية برلين الشهيرة، التي بدأت بألبوم «لوو» عام ١٩٧٧، أحد أهم علامات بووي، بما فيه من مزج بين الكرواتروك والفانك والأرتروك.

في نفس العام، توابعه الإصدار الثاني من تلك الثلاثية، الذي حمل اسم الأغنية الأشهر في تاريخ بووي «هيروز»، شهد ذلك الألبوم تعاون بووي وإينو مع فريپ، لتشهد حركة الموجة الجديدة ازدهارًا مبهرًا مع تغيُّر شكل الأدوات التي قدم بها الثلاثي ذلك الإصدار، من استعمال مباشر للسينث والعناصر المحيطة، والبنية الأكثر مينيمالية المليئة بالضجيج الأبيض.

حوَّل بووي ماجور توم إلى مجرد مدمن آخر، لا يستطيع أن يبقى بعيدًا عن جرعته. لم يخفِ القصة وراء أسطورته الملحمية التي رفعته إلى سماء النجومية الأولى عام ١٩٦٩.

في عام ١٩٧٩، جاء ثالث إصدار من السلسلة مُركّبًا بعض الشيء، لما فيه من توسع بالدمج، فشمل الموسيقى الإثنية مع نفس الشكل المينيمالي الجديد، وبعض التراكيب من المقامات الشرقية، كـ«الحُجاز» مضادًا لذلك اللحن الغربي. إصدارًا مفاهيميًّا حمل اسم «لودجر»، يحاكي فيه نزيل شريد يقع ضحية متع الحياة وتطور التكنولوجيا.

بين اللحن التركي والهندي على مقربة من الحُجاز، أغنية يساسين

عند عودته إلى بريطانيا عام ١٩٨٠، كانت الحركة الرومانسية الجديدة/السينث پوپ قد نمت في لندن، بعدما بدأت عند موسيقى ديڤيد بووي وفريق «روكسي ميوزك». تفرّد بووي بالمشهد كليًّا، وتحوّل مرة أخرى إلى كيان جديد، ذلك المهرج الشريد الذي لعبه في أغنية «آشز تو آشز» من ألبوم «سِكاري مونسترز».

لم يكتفِ بووي بذلك، فأعاد رفيقه السابق «الدوق النحيف» في نفس الأغنية، ساخرًا، لتبدأ القطعة بتلقي رسالة من صديقه القديم، حليف البدايات الأولى «ماجور توم»، وقد تلقوا رسالة منه بعدما ضل طريق العودة في الفضاء، محاكاة أخرى لتجربة بووي مع الإدمان.

حوّل بووي الرائد البطل إلى مجرد مدمن آخر، لا يستطيع أن يبقى بعيدًا عن جرعته. لم يخفِ القصة وراء أسطورته الملحمية التي رفعته إلى سماء النجومية الأولى عام ١٩٦٩، كانت «سپايس أوديتي» بكل ما فيها من مشهدية لرائد تضيع مركبته في الفضاء خلال عمليته الاستكشافية، بكل ما فيها من رسائل وداع لزوجته وأطفاله، هي في الحقيقة سردية مكتوبة بعناية وحرفية شديدة عن الإدمان.

تغنى بووي في «فاشون» بنفس الإصدار عن الحركة الرومانسية الجديدة في المملكة المتحدة، وسخر من الموضة والتوجهات السائدة في محافظتها وعدم انفتاحها على هؤلاء المنعزلين عنها، مشبههًا إياها بالفاشية. جاء ذلك الإصدار على نفس الأسس والقواعد التي بناها بووي وإينو وفريب في ثلاثية برلين، بلمحة أكثر كثافةً من الهارد روك بصحبة بيتي تاونشيند، عازف الغيتار وكاتب الأغاني الأول لفريق ذ هوو، وعازف الغيتار تشاك هامر، المعروف بمواده العديدة مع بووي ولوو ريد.

في الأعوام التالية انتشر بووي تجاريًّا، تعاون مع فريق «كوين» في ثنائيته الشهيرة مع فريدي ميركوري باسم «أندر پرشير»، ثم نايل روجرز في ألبومه الضارب تجاريًا «لاتس دانس»، صوَّر أغنيته لقناة MTV التي كانت بمثابة ثورة جديدة وقتها في عالم الفيديو الغنائي المصور، وكان بووي وحهًا محببًا لهذه الثورة. تبع نجاحه بألبوم «تونايت» مع إيغي بوب وتينا تيرنر، وسجّل وصوّر لاحقًا أغنية «دانسينغ إن ذ ستريتس» مع رفيقه ميك جاغر.

أتت بعد ذلك أعوام تخلِّي بووي عن مساره الفردي وعودته لتكوين فريق موسيقي يضم عازف الغيتار «غابريلز ريفيز» والأخوين «توني وهانط سايلز» على البيس والدرامز. بدت الأسماء مبشرة، لكن جاءت فرقة «تِن ماشين» وإصدارها الأول ثم الثاني. لم تقدم الإصدارات المأمول تجاريًّا أو نقديًّا، حتى بعد الجولة الدعائية. وفي الوقت الذي بدؤوا التجهيز لإنتاج إصدار ثالث، أنهت بعض المشاكل الشخصية خططهم وتفكك الفريق.

لم يحب بووي توجهه التجاري في أواخر الثمانينيات، أجبره حل فرقته على العودة سريعًا إلى مساره الفردي عام ١٩٩٢. وخلال زفافه على عارضة الأزياء والسوپر موديل الصومالية إيمان في العام نفسه، وقابل براين إينو للمرة الأولى منذ عام ١٩٧٩، ليبدءا بعدها بعامين العمل على ألبوم بعنوان «أوتسايد».

“لأننا بني الإنسان حطمنا مفهوم الإله في بداية هذا القرن، ذلك الثلاثي: نيتشه، آينشتاين، فرويد، حطموا كل شيء نعرفه ونؤمن به. فالوقت ينحني، والإله مات، والهوية الذاتية مكونة من عديد من الشخوص. فبأي لعنة نحن الآن؟”

بحسب ما ذكره عازف الكيبورد مايك جرايسون، قال بووي إنه سيجمع كل الموسيقيين المفضلين الذين ألهموه، ليرتجلوا تراكين متعددي المسارات، ثم يعيد إينو صياغتها لعمل الأغاني.

باستعمال بعض اللوحات والفنون البصرية الذاتية التي جلبوها معهم من إحدى المصحات النفسية، كتب بووي كلمات هلوسية على برنامج «Verbasizer»، الذي يعيد ترتيب الجمل بشكل عشوائي، وهو ما كان طفرة تكنولوجية هائلة آنذاك. في الجلسة الأولى، سجل بووي وإينو وباقي الموسيقيين ما يقارب الثلاث ساعات.

بينما العمل مستمر على ذلك الإصدار، طلب القائمون على مجلة «Q» الموسيقية من بووي أن يكتب مذكراته الشخصية عن ١٠ أيام من حياته. وخوفًا من أن تكون مملة، إذ لا شيء في حياته غير الاستوديو وفراش النوم، كتب بووي مذكرات خيالية لخمسة عشر عامًا من حياة شخص خيالي ابتدعه وأسماه «ناثان أدلير»، كان وحي تسجيله الأول مع إينو، وأصبح لاحقًا محور الإصدار.

على نفس الخط من الارتجال، كتب بووي باقي شخصياته الروائية السبعة على تلك الارتجالات الموسيقية التي تحدث خلال جلسات التجريب.

كان بووي ينظر إلى نتاج ترتيب الكلمات العشوائي لأول مرة خلال التسجيل، يرتجل الأداء سريعًا مع الموسيقى. تخيّلَ بووي في هذا الإصدار أنه في نسخة أكثر فسادًا من ذلك العالم، يحرِّك جنون بعض الحركات الفنية السرية إلى القتل والتمثيل بالجثث كتوجه فني جديد، بينما تشكل الحكومات فريقًا للتحقيق في تلك الجرائم، وكان ناثان هو ذلك المحقق الذي يحدد بشكل قانوني ما إذا كانت تلك أعمالًا فنية أم خراءًا.

حينما تحدث بووي عن إلهام ذلك الألبوم، قال: «ربما كان أحد الخطوط الخفية فيه هو تلك الوثنية الجديدة، البحث عن سريان حياة روحية جديدة، لأننا بني الإنسان حطمنا مفهوم الإله في بداية هذا القرن، ذلك الثلاثي: نيتشه، آينشتاين، فرويد، حطموا كل شيء نعرفه ونؤمن به. فالوقت ينحني، والإله مات، والهوية الذاتية مكونة من عديد من الشخوص. فبأي لعنة نحن الآن؟».

«أفكر أحيانًا: هل يدرك الإنسان أن الإله الوحيد الذي صنعه كان القنبلة الهيدروجينية؟ أو أن التسرب من إدراك أن تلك الآلهة التي نصنعها لا تُنتج إلا الكوارث، يحرك الناس نحو البحث عن روابط روحانية موحدة وسلام نفسي مع الذات.
«لكن تلك الفلسفة الوضعية لم تكن موجودة في نهاية القرن الماضي، وكان الشعار المنتشر بين المجتمع الفني والأدبي آنذاك أنها كانت نهاية العالم، وأن ما يلي ذلك هو الهلاك المدقع. هذا ليس الوضع الآن. يمكن أن نكون الآن حذرين أو غاضبين بعض الشيء مما يجري حولنا، لكن ليس هناك إحساس عام بأن النهاية ستكون عام ٢٠٠٠ مثلًا، بل هناك احتفال وشعور ضمني بأنه على الأقل يمكننا أن نعيد تشييد الحطام».

بعد ذلك الإصدار، تعاون بووي مع ترينت ريزنور مؤدي فرقة «ناين إنش نايلز»، شاركه إعادة توزيع بعض أغانيه، لتستمر المرحلة الإلكترونية في موسيقى ديڤيد بووي ستة أعوام أخرى، محافظًا على نجاحه الفردي المعتاد، ويحتفل بعامه الخمسين في يناير ١٩٩٧، ثم يصدر ألبومه العشرين «إيرثلينغ» في الشهر التالي..