Article Feature Picture

غابة بابلو التي لا تذر


«لمّا ابتديت المهمة، كنت قادر أشوف كل حاجة بوضوح. كنت متأكد من اللي أنا بعمله. بعد كده، ابتديت أحس إني بقيت أشوف الصورة من ورا لوح إزاز. وبالتدريج ابتدت تتكون طبقة كدة زي التراب، والمشكلة إن التراب ابتدا يزيد، لدرجة إن أنا ما بقيتش شايف أيّ حاجة. صورة ضبابية، الذكريات اختلطت مع الأحلام.. مع الأوهام.. مع الحقايق».

– أرض الخوف، داوود عبد السيد (٢٠٠٠)

في مشاهدتي الأولى للفيديو المصور لأغنية ”غابة“، استوقفتني حركة الكاميرا التي تبدأ من أسفل، حيث تنتصب كتلة خرسانة فوق بركة مياه راكدة، وتنتقل إلى أعلى بشكلٍ مستقيم في تتبع لمصدر صوت مروان بابلو، فجأة قبل وصولها تميل حركة الكاميرا، تكسر استقامتها على نحوٍ يشوبه حذر مع تصاعد موازٍ لتضخُّم أصوات السينث في الخلفية، في ترُّقبٍ لما يوشك على الحدوث.

يظهر بابلو، مستندًا على قضيب السلم الوحيد المؤدي إليه، يرفع رأسه التي أخفاها عن ذراعه، يبرز وجهه وكأنه يستفيق من غفوته على إثر الأحلام. يقول: ”الشياطين عمَّالة تزن في ودني“، ثم يخفض رأسه مرة أخرى، كأنه يحاول استعادة النوم مرة أخرى، قبل أن تنطلق الأغنية، فينطلق بابلو متحفزًا وننطلق معه تحت خطوط ضوء الشمس المكثفة، في إشارة إلى كندريك لامار وفيديو أغنيته، هامبل، حيث يقف كندريك وحده في منتصف كنيسة شاسعة، مرتديًا رداء الكاهن، في رمزية إلى قدسيته وبابويته وقوته الدينية، وهو ما يمتثل تمامًا مع قول بابلو في أغنية ”عايز فين“: ”الأب الروحي في التراپ/ خلاص قرَّبت أكون إله“.

بابلو يحدثنا من أعلى نقطة، من كليب غابة – إخراج: سليم الصادق

لقطة مروان بابلو أعلى سطح البناية المهجورة ومن خلفه عامود البيلبورد الفارغة، تحمل إشارة بارعة للقطة لوحة الإعلانات في فيلم الحريف للراحل محمد خان. مع اتساع الكادر، يبتعد بابلو، فيظهر العُمّال على اللوحة، يتحدث بابلو من نقطة بعيدةٍ وعالية يغطيها الدخان الأبيض، ومساحاتٍ قماشية ملونة. يتولد إحساسا كاملًا بعزلته عن العالم من تحته.

بعد ساعات من إصدار الفيديو نشر الكاتب المصري محمد الحاج تغريدة يشير فيها للقطة مروان أعلى البناية، ويضيف قراءة احتفالية تترابط تمامًا مع وقوف بابلو القدسي تحت خيوط الشمس، شارحًا: ”أنه في تقاليد الانتخاب البابوي، يتم إطلاق الدخان الأبيض من مدخنة كنيسة سيستين، إعلانًا لانتخاب بابا جديد للفاتيكان“.

المشهد نفسه يُذكِّر بفيديو أغنية ”فري“، آخر أعمال بابلو الرسمية قبل الاعتزال، والتي تبدأ بلقطة واسعة، تُظهر بابلو واقفًا وحده في جزيرة بمنتصف البحر، تبتعد الكاميرا أكثر فأكثر، في دلالة على مدى اتساع عزلة مروان الاختيارية بعد تفرّده بمشهد الراب المصري وبُعْده عن العالم المحيط. يقول في نفس الأغنية ”أنا وصلت لفوق، إنت فين؟ مش شايفكو“.

هذا هو مربط الفرس، بابلو يتحدث دائمًا من أعلى، من نقطة بعيدة، هي عزلة الفن، أو كما قال لاحقًا في نفس الأغنية: ”هاضحي بوقتي كله، المايك جنب اللاب يو/ معمل زي زويل، الفيزيا عندي كيف/ لو سألوني ليه، الفن عندي دير“، لكنها بشكلٍ ما تبدو كتلك العزلة التي أشار إليها داما أيضًا بالسابق في أغنية ”سفاحين“ قائلًا: ”حَط ريش وساب مكانه، جاب منظف لودانه/ راح لكهف بعيد وعاش، عشان ما يكونش فار تجارب“.

الغلاف

منذ بدايته الأولى كـ”داما“، اختار مروان أحمد مطاوع الراب ليكون مهربه الفردي، ملاذه الأوحد، كرَّس كل وقته للتعرف أكثر إلى نفسه عبر كتابة الأغاني وتطوير أسلوبه وصوته وتَعلُّم الإنتاج وصناعة البيتس لأغانيه على اللابتوب الخاص به، كان ”داما“ مرحلة التجريب المستمر، بحثًا عن المعادلة الأذكى لتحقيق ما سعى له من البداية.

يذكر مروان في إحدى المقابلات أنه انغمس في كتابة الأغاني، حتى رسب في صفه الثالث الثانوي، وحين حاول التوقف والالتفات لمستقبله، اكتئب واسوَّدت الدنيا في وجهه.

لكن مع ضياع طموح الشهادة وجد ذاته التي طالما بحث عنها، وزاد ولعه وانغماسه أكثر، وبعد أن أراد الالتحاق بكلية فنون جميلة، أصبح عليه أن يعيد سنته الدراسية ويدخل كلية أخرى من أجل الشهادة فقط، فكَّر في تلك المجازفة التي قد ترفعه إلى السماء، أو تهوي به إلى الأرض، وتدكه وتفتته بمرارةِ الواقع الذي ملّ النظر إليه.

سجَّل “داما” بالغناء صراعه مع توقعات الأهل المُعطِلة لكيانه، معاركه الذاتية مع المجتمع المصغر. لم يجد مِن حوله دعمًا في طريقه المغاير ولا تأييد بين حبيبته أو أهله، الذين يذكرونه بالامتثال لتعاليم اللعب الآمن و«المشي جنب الحيط»، أو حتى الالتحام به حتى لا يفرق الناس بينهما، في ”زئبق“ يقول: ”مش عايزييني اعمل مزيكا / ودي مش عايزاني اعمل مزيكا / جي آراپ مش جي العب، مش باغني لحد غيرهم / أنا هاغني لحد ما اتعب“.

لكن ”داما“ لم يكن مجرد تجربة، فهو أيضًا الأنا الأخرى عند مروان، الأنا الثانية، التي تستمد روحها من صاحبها، صوته الضمني، موقفه الخفي من العالم من حوله، آليته للتعايش، محاولة لإخفاء هشاشته الإنسانية تحت غلاف هذه الأنا الأخرى، هذا ما لم يستطع ”داما“ إتقانه للنهاية، وهو ما يمرره في سفاحين مرة أخرى ليقول: ”عيَّطت قدام ناس مرَّة / كده عندك إحساس ها؟ / ياريت تقتل كس أمه عشان خطر علينا“، ربما كان”داما“ أنا أخرى ضعيفة وغير مكتملة، لا تستطيع الصمود أمام شراسة الشهرة وحِدة تعقيداتها، بينما بحث مروان عن الكمال.

امتلك الفن، الكلمات، الثقل، الأداء المركب، الحس التجريبي الخالص والرؤية شبه الواضحة، لكنه لم يمتلك المقدرة على التعامل مع العالم التجاري في كامل وحشيته.

رغم حِدة لغته وكثافة إنتاجه الموسيقي في فترة ”داما“ كان بابلو ما يزال بحاجة لإمكانيات أوسع، بصريًا وتقنيًا، كان واعيًا بهذا منذ البداية. بدأت الرؤية تتضح شيئًا فشيئًا.

ففي تخيله للعالم الجديد الذي يصنعه، يكبر الراب المصري تجاريًا ليصل إلى مسامع الجميع، يُكسِّر كل التماثيل والأصنام التي فُرضت على ساحة الفن لعقود طويلة واحتكرتها.

في عالمه الجديد، يصل الراب لمحبي عمرو دياب وتامر حسني، وللراقصين على أنغام المهرجان، يصبح الراب مصدرًا لدخل مغنيه، ويتخطى كونه هواية، لذلك تحديدًا كان غرض المسار الجديد نقل مشهد الراب إلى منطقة أخرى جماهيريًا وإنتاجيًا، مثلما ذكر في مقابلته الأولى مع الناقد ياسين زهران: ”باحضَّر لحاجات هتنقل المجال ده كله في حتة تانية، هنوديه فوق خالص“.

اعتاد مروان انتظار وحي الكتابة أمام البحر، لكن عند هذه النقطة، كان عليه أن يطمح لما هو أبعد، أراد العبور إلى الشاطئ الآخر، الهجرة إلى الأحلام، والعودة بها إلى الإسكندرية التي همشتها مركزية العاصمة.

يحتمي الإنسان بغرفته بحثًا عن ذاته، ثم يخرج إلى العالم بحثًا وراء ذواته الأخرى… قبل خروجه للعالم، قَتَل مروان ”داما“، أو هكذا أعتقَد.

أوزوريس

عندما خرج مروان بابلو إلى العالم بعد عام كامل من نهاية ”داما“، استعاد الفصل الأخير الغائب من قصة قتله، وتوَّحشه، في أولى أغنياته ”الغلاف وأوزوريس“: “عوزت مرة ألاقي نفسي، كسرت سِن طلع لي ناب”، ليذكرنا أن “داما” كان غطاءً يتخفى وراؤه مرددًا: ”اللي شفته مني ده الغلاف“.

يبرز معالم شخصيته الجديدة القادرة على التعامل مع قسوة أضواء الشهرة وكبح أصدقاء المصلحة، سلاحه الوحيد فنه، بعد إيمانه القوي بالله، فيقول: ”ربي قال لي ما تتحوجش لعبد، واوعى تروح لغيري في يوم وتلجأ“، ”بيني وبينكم ييجي ميل /you know I always keep it real/ مبثقش في أي عرص/ مالناش أسياد، مالناش كبير“.

لكن في الصور التي تسرَّبت بعد صدور ”غابة“، من كواليس تصوير أغنية ”الغلاف وأوزوريس“ الذي لم يكتمل، اكتملت الحلقات المفقودة. فُتحت عيناي وخيالي على منظور مختلف تمامًا للقصة، ليتحول السؤال عندي من كيف قتل بابلو ”داما“، إلى هل مات ”داما“ فعلًا؟

بابلو، غارقًا في دمه، بعد قتله داما – رسوم: أحمد بيكا – ذات مصر

في إحدى الصور يظهر مروان بابلو في قميصه الأبيض الملطخ بالدماء، يبدو عليه الإعياء والألم، ما يرجح أن المشاهد تحدث بالتوازي مع المقطع الأخير من الأغنية:”خلاص ما فاضلش مني غير شوية حُطام / لو أوزوريس حاسبني قلبي هيوزن جرام“.

عندما حاول مروان قتل ”داما“، مات هو، في معركتهم الأخيرة، كون ”داما“ جزء جوهري من شخصيته. لم يعنِ قتله شيئًا إلا موت مروان نفسه، وليس ”داما“ وحده.

حين مات، سار مروان مع ”أنوبيس“ (إله الموت)، في ممر طويل يؤدي إلى المحكمة، حيث يمتثل أمام ”أوزيريس“ (إله البعث والحساب). على الميزان وُضعت ريشة ”ماعت“، رمزًا للعدالة والخير في كفة، وقلب مروان في الأخرى، لتقاس أعماله في الدنيا نسبة إلى تلك الريشة.

رجحت كفة “ماعت” في مقابل قلب مروان. لم يجد ”أوزيريس“ منه غير إيمانه، وضعوا قلبه في جسده، واعطوه رداء النعيم الأبيض، فلم يلبسه، بل طلب من ”أوزيريس“ أن يبعثه ثانية إلى حياته الأولى، قايضه على حياةٍ قصيرة أخرى في مقابل النعيم الأبدي.

تعود الحياة إلى جسد مروان بابلو، ملقى على أرضية سطح بناية أعلى مما حولها، قميصه ملطخًا بدمه. يستفيق ويحاول النهوض. يستند منهكًا إلى السور، يتحسس بيده موضع قلبه، يجده مكانه، لا يدري هل كان ذلك حلمًا، أم هلاوس، جراء الدم الذي فقده. يجلس على السور ومن خلفه المدينة وقد غربت شمسها.

يُنكِّس رأسه في تعب. يغطي شعره الطويل وجهه، ويردد في سره مرة أخرى: ”خلاص ما فاضلش مني غير شوية حُطام“. تعود هلاوسه، يرى عيون حبيبته في السماء، على هيئة نوافذ، تغويه غواية ”ميدوسا“ أن يقفز إليها، ينظر من ارتفاعه الشاهق إلى الأرض، يسأل نفسه هل يقفز، ويغرق فيها. يرد صوت وعيه معاتبًا ”بس دا اسمه انتحار“، يلوم بابلو نفسه على قتل ”داما“، يوبخ طيبته التي لم يخترها، ويحاول تقبّلها.

في تلك اللحظة، رأي بابلو مساره الآتي بوضوح، فكف عن أسئلته بشكلٍ مؤقت، ونهض.

الطوفان

وقف بابلو يشاهد عن بُعد، حاملًا في صدره إيمانًا خالصًا بنفسه. لم يكن متعجلًا في طريقه للقمة.

يكمن ذلك التفرُّد وراء نظرة مروان بابلو المتقدمة إلى الراب مقارنةً بزملائه في المجال. فبينما كان البعض يمارس الراب كهواية لا تتطوَّر، كان بابلو ينظر للراب كمستقبل علَّق عيونه عليه، وهو ما ذكره في مقابلته المصوَّرة مع ڤايس آريبيا: ”نفسي أعيش ٢٠٠ سنة قدام تانيين. فاهم؟ أشوف التطور بتاع البشرية هيوصل لفين؟ الناس بتتبـضن إن الدنيا بتتطوَّر، ويقولوا أيام زمان، ودايمًا زمان أحلى… زمان مش أحلى خالص على فكرة، بالعكس… دلوقتِ أحلى، دلوقت أسهل“.

يظهر إدراك مروان بابلو هذا في عدة أغاني، لكن الأبرز كانت فولكلور، والتي تبدو كبيان/مانيفستو، يقدم فيه بابلو فلسفته للجميع من حوله، يذكِّرهم بأنه لا يسابق أحدًا، ولا يسعى لمنافسة أحد، لأنه فوق كل ذلك، ”متأني ومش باجريها، بيتش أنا إبليس، كل البشر ديَّ أنا جيّ قبليها“، يمضي بابلو، ولا يهتم بما يقال عنه، يسمع ما يقال في ظهره، لكنه في عزلة عن كل شيء.

بنجاته من موت ”داما“، أدرك بابلو أن حياته لعبة هو من يسِّن قوانينها وقواعدها. لن يغيِّر كلام الآخرين عنه من الواقع الذي صنعه وحده شيئًا: ”مع ذلك مش هتفرق، لو تكرهونا/ أنا زهدت الدنيا زي بودا/ في العتمة لقيت النور، بس جم قالوا لي ده جنون/ بس مش هتفرق“.

يفتح بابلو الباب إلى عالمٍ أكثر ارتياحًا في سندباد، ينبسط مروان بابلو في تعبيره عن حياته كشاب في الحادية والعشرين من عمره، ما يزال يسرح في السقف ويتذكر حبيبته وهو يخطو خطوة واسعة، يغلق أبواب الماضي ويذهب آملًا نحو المستقبل: ”سنة جديدة، وإنتِ لسة ثابتة في مخي زي الموناليزا“.

وعكس ”داما“ الذي كان صوتًا لاكتئابه وغياب الإجابات، يبدو بابلو متفائلًا. يرى النعمة التي يصل إليها، يدرك خطورة العالم من حوله، يلاعب الحياة بثقة أكثر مما مضى، ويشكر الله على حظه من السلامة: ”سنة ريحتها فلوس، ريحتها خمرة، ريحتها دروس/ جت سليمة ومش محبوس الحمد لله“

يخرج من محطة المترو حاملًا وسادته، ضاحكًا للكاميرا، ثم يرميها ليذكرنا ونفسه: ”مافيش نوم، فيه حساب في البنك، عايز أملاه أصفار“، يتمسك بهويته السكندرية ولا يخضع لمعايير العاصمة في الراب. يساوم الدنيا على نصيبه منها: ”مش من مصر أنا من إسكندرية/ السنة دي أنا هاخدها ليَّ“، وهو ما حدث بالفعل.

أثبت بابلو أنه رائد المشهد الجديد، وقائد موجة التِراپ، صوتها وصانعها وأيقونتها. ومُحرِّكها الأشرس والأقدر على تغيير دفتها.

ما فشلت أجيال كاملة من الرابرز في فعله على مدار عقود، شاهدوه جميعًا يتحقق على يده بعدة أغنيات. لذا أصبحت أعينهم عليه، كخطر ومصدر إلهام: ”صاحبي لو سامع/ راب بلدك بجرّيه من عزبة الجامع/ لو متابع“.

عبر بابلو إلى الشاطئ الآخر الذي كان يتطلَّع إليه، تعلَّم ترويض حظه من الدنيا وامتلاكه مع التزام الصبر واختيار معاركه: ”عدينا البحر، ورمينا الزهر / اتعلمنا كتير، وجارينا الصبر”، لكن مع الوقت، وبالنظر لهذا البار يظهر أن مقطع”عدينا البحر ورمينا الزهر“ ربما يذهب أبعد كثيرًا من معناه في الأغنية، ليتصل بمشهد أوسع.

وبينما يعتقد البعض أن كل أغنية لمروان بابلو منفصلة بذاتها عن الأخرى، حتى لو تشابهت التيمة بينهم، أستطيع أن أرى في كل أغنياته معًا عالمًا مكتملًا، سردية متماسكة ومترابطة، يحكي فيها قصته على هيئة فصول غير مُرتبَّة، يمكن دومًا ربط كلمات الأغاني ببعضها لخلق سياقات أوسع.

اجتاحت أغنية ”الجميزة“ المشهد، وأطلقت بين الناس مشاعر حادة إما بالاحتقار المطلق عند أبناء الطبقة المحافظة من أتباع الفنون الهادفة، أو الاحتفاء البالغ والاحتفال عند المتحمسين لموجة الراب الجديد التي ينطلق بها بابلو. جلست أتأمل تلك المشاعر من حولي، ثم قررت إعادة صياغة وترجمة أغنية الجميزة إلى الفصحى ممارسةً لألعابي الأدبية المحببة، لعل ذلك يفتح عيوني على تصورٍ أوسع للكلمات.

في بداية الجميزة يمهِّد مروان بابلو: ”هنروح أكننا في مركب نوح“، ما قمت بترجمته إلى: «نرحل وكأنما يتبعنا الطوفان». نظرت إلى ترجمتي مليًا، وأنا أسمع أغنية أتاري، ثم بدأت الخطوط تتصل وتتكوَّن المشاهد كاملةً أمامي كما يلي:

بعد قتله لـ”داما“، لم يعد أمام مروان الكثير من الوقت ليعبر إلى الشاطئ الآخر، فالطوفان يقترب حسب ساعته، الطوفان هو الفرصة الضاربة والفريسة التي يقنصها ولا يحلها، بعد أن امتثل للصبر طويلًا، وضيَّع الكثير من الفرص التي آمن بأنها لم تكن له.

يترك بابلو عالمه القديم خلفه، تاركًا سنوات الفقر التي تطرق بوضوح إليها في ”أتاري“: ”هنا كله على الله، وربنا مش بعيد/ العيال عند الجامع، مستنية هدوم العيد/ ما في حيلة بالإيد، قولي نشكي لمين؟“.

تحت عتمة الليل يرحل، لا يدري هل بإمكانه السباحة أم لا، بلا إنذارات ولا احتفالات، لا علامات تدله إلى الطريق. ففي ”الجميزة“ يقول: ”مافيش مزمار وهنروحوا الليلة/ مافيش إنذار، إحنا هنغربلها“، البار الذي يلتحم مع مقطع ”مافيش قبليها إنذار“ من ”أتاري“، فالفقر والغنى في عالم بابلو القديم أحداث مفاجئة، بخت، حظ، بينما تحاول الهرب من قبضة الشرطة على الفقراء.

من قلب القحط، نما الشباب في أرض بور لا فرص فيها ولا أمل، لا يحملهم إلى سطح الأرض غير غريزة عاتية للبقاء، بأي سعر، حتى لو احتاج الأمر اعتلاء جثث الرفقة صراطًا للمشي فوق الماء. يريد كلٌ منهم أن ينال وسام المحارب، أن يرث الفجر، أن يصير إلهًا. فيما ينظر العالم لطموحهم كهجرةٍ غير مشروعة.

الطوفان كرمزية للزمن والفرص الضائعة والفقر، ومركب نوح هي طوق النجاة الأخير الذي يعبر به إلى الشاطئ الآخر، هي الموسيقى، أو كما قال في ”أتاري“: ”من الفقر ملّيت، من الكبت غنّيت“، أما ”الجميزة“ فهي رمزية للراحة، العزلة، الكهف البعيد الذي أشار له أيام ”داما“، والدير النائي أعلى الجبل، الشجرة التي يستظل تحتها، قيلولة محارب بعد معاركه الطويلة، مع الفقر والظروف وطموح الأهل وتطلعات الجمهور المنغلق ثقافيًا، وغدر زملاء الكار وأصحاب المصلحة.

لم يستطع بابلو التخلص من طبعه المثالي، الذي يؤمن ويُحسن الظن بالناس من حوله، ولكنه على الأقل أصبح قادرًا على كبح أصحاب المصلحة الذين التفوا من حوله في بداية مسيرته لتحقيق مكاسب على حسابه: ”صعب تمسك فيَّ صاحبي أنا زئبق“.

هنا يسبح بابلو نحو مركب نوح، وهؤلاء الغدَّارين من حوله يغرقون ويحاولوا سحبه معهم، يشدونه بكل عزمهم بدلًا من أن يحاولوا السباحة نحو المركب، فيتبخَّر من بين أيديهم، فهو نفس الزئبق الذي تبخَّر من أيدي أهله حين حاولوا قتل طموحه في صُنْع المزيكا.

الرؤية

بعد ”الجميزة“ هاجم قطاع ملحوظ من جماهير الراب المصري، اتجاه بابلو لغناء مقارب للمهرجان من حيث اللغة والإيقاعات واستخدام الأوتوتيون، ليصبح ذلك لاحقًا وصم جاهز لكل رابر مستعد للمغامرة واستكشاف مساحات جديدة.

ولكون بابلو الأول في خلق اتجاهات جديدة داخل المشهد، امتص الهجوم وخرج بعد خمسة أشهر متحديًا الجمهور والمشهد الموسيقي كله بالفيديو المُصوَر لأغنية فري، آخر أغنية قدمها بابلو رسميًا مع مولوتوف.

لا يهاب بابلو مواجهة الكاميرا، بل يلتهمها، ولا يخاف من مواجهة جمهوره. يغني له، لكنه يفعل ذلك لرغبته في التعبير عن نفسه قبل أن يكون مُعبِّرًا عن جيله. بابلو الذي أخبرنا في بدايته أن مستعد ”يضحي بأي حد“ لا يهمه ما حجم الخسارة طالما كان ذلك في سبيل تحقيق رؤيته الفنية.

وعكس رواد الفن التجاري الذين يسعون بكل ما أوتوا أن يجاروا السوق والميل لمزاج الشباب بدلًا من التجديد، تحرَّك مروان بابلو ضد التيار، ليثبت أنه يرى ما لا يراه أحد، وفي سبيل ذلك، ضحى بالفعل بكل شيء: الأصدقاء والحب والراحة.

في مطلع أغنية “فري” يخبرنا بابلو بأنه محبوس في موسيقاه، حيث المايك جنب اللاب، لا يفصله عن سعيه شيء، لا يريد سوى الكأس والبِيت الذي سينزل عليه، يسوق الدنيا للمريخ، ويتلاعب بحظوظها بدون وقود، ”لو تتجنن تبقى زميل“ يفتح الباب لشركاء الموجة الجديدة، بينما يضع ”رِجْل على الحاقدين، والرجل التانية على السين“، يغني وينطلق مُحطمًا كل ما حوله كأن الحياة تدوم أبدًا وتنتهي غدًا.

تكشف ”فري“ قدرة بابلو على الانطلاق إلى حيث لا يتوقع أحد، إلا أنها أيضًا تكشف أن رؤية بابلو بدأت تتشوش مرةً أخرى كـ”يحيى“ في «أرض الخوف» بشكلٍ عكسي مع انطلاق مسيرته إلى سماء جديدة، ما جعله يضحي بكل شيء على نحوٍ تدميري، من أجل الشيء الوحيد القادر على إنقاذه: الموسيقى.  

قبل انتصاف الأغنية، نرى بابلو في مقابر قتلى الحرب العالمية، ومن خلفه يتحرق النخل العالي في السماء. بتسامٍ شجاع يقول ”إحنا حجر الأساس (…) كدا كدا ميِّتين“ بينما ينتصب خلفه شاهد القبر، محفورًا عليه بالإنجليزية رثائية من نسخة الملك جايمز للكتاب المقدس: ”وتعيش أسماؤهم إلى الأبد“، قبل أن يضربنا في الفيرس التالي: ”بابلو بكره مات، مش هتلاقوا له دوبلير“، ما يعني أن بابلو كان بالفعل يفكر بالاعتزال خلال إنتاج الأغنية.

يُذكِّر أصدقاء الأمس، أن كراهيتهم له دافعها كونه مرآة تعكس لهم حقيقتهم، التي يخافون مواجهتها، يقف أمام محطة الوقود بزي رجال الإطفاء ويرد على ويجز حين قال: ”نولعوها بنزينة“ في إشارة إلى خلافاتهم وقدرته على إنهاك الخصم فنيًا، دون أن يقلل منه أو يهينه كما يفعل زملاء الكار في الدسات والنكش.

يُنهي رده بأن السعي وراء الفن والمجد أشرف من أن يسهر الليل يعوي كالكلاب بلا رد أو قيمة، ”صاحبي، إحنا كلاب/ بس كلام المجد غير كلاب الفجر“.

يختتم مروان بابلو ”فري“ بمواجهة صريحة مع جمهوره: ”ما تقوليش راب، بيتش أنا الراب (…) باغني بس اللي أنا عايشه، أنا مش رابر أنا پيكاسو“، يضع الأب الروحي القواعد ويسنها للجمهور، وليس العكس، يترك المايك ويرحل.

بعد إصدار ”فري“ بأربعة أشهر، أعلن بابلو اعتزاله بشكل مفاجئ ومربك للمشهد الموسيقي، ترك فجوة فرَّغت الراب المصري كله من معناه. أكلته الخسائر الشخصية وضغوط الفن وتوقعات الجمهور التي لم يرد الانصياع لها، ثم انعدمت الرؤية تماماً.

أكد ذلك تراك ”ديناميت“ الذي أصدره مولوتوف بعد اعتزال بابلو بينما كان بابلو قد سجلَه بشكلٍ تجريبي معه خلال تعاوناتهم في 2018.

يبدو بابلو واثقًا من رؤيته في النصف الأول من الأغنية، يؤمن تمامًا أنها مسألة وقت حتى يدرك الناس ما يحاول تحقيقه: ”قاعدين بنصنع المجد/ قاعدين نكسَّر في السَد/ الفكرة بس في الوقت“، إلا أنه يظهر غاضبًا في النصف الثاني منها، مُرددًا: ”الرؤية هباب، كله هيتناك مافيش حساب/ أنا تلفان، روحوا قولوا للشباب“، يكشر عن أنيابه في وجه الجميع دون استثناء، يذكرهم أنه يستطيع اللعب بقواعدهم وسحقهم إن أراد.

ضباب

في غيابه الذي استمر عامًا، انغلقت مساحة التطور في مشهد الراب. كان مروان بابلو هو الاسم الوحيد الذي لم يكفّ الناس عن انتظار عودته، حتى مع صعود الكثيرين إلى سطح مشهد الراب، لم يستطع واحد منهم سد ذلك الفراغ.

بحث جمهوره عن علامات تلمح إلى عودته في كل شيء، أدرك الجميع، حتى من هاجموه في البداية، صدقه حين قال ”مش هتلاقوا له دوبلير“، فهموا الطفرة التي أراد الوصول لها بالمجال، بعد أن أصبح الراب سيّد سوق الموسيقى حاليًا كما سعى له مروان بابلو وحققه.

كان أول من كسر ذلك الحاجز ليصل بالراب إلى التريند بأغنية ”سندباد“، ثم تبعها بـ”الجميزة“ إلى سوق أوسع، من بعدها دخل التراب إلى الإعلانات، توغل إلى قمة قوائم الموسيقى ومعدلات الاستماع على منصات البث ساحبًا البساط من تحت أقدام مطربي الصف الأول.

اعتزل بابلو عندما انعدمت الرؤية مرة أخرى، فتشكك في جدوى ما يفعله، فالمشهد المصري رغم تطوره في السنوات الأخيرة، ما يزال بدائيًا، ينجرف أبناؤه إلى النكش والدسات لخلق حدثٍ ما يتحدث عنه الناس لأيام، لكنه ليس أكثر من مجرد ترويج لأعمالهم، أما عن الجمهور، فكان يهاجم محاولات التطوير، منفصلًا تمامًا عن حقيقة كون موسيقى الهيپ هوپ أرضًا واسعة تمتص في كل بلد من جذورها الثقافية وتراثها وحاضرها، ولا تنغلق على ذاتها ولا تدوم على وتيرة واحدة.

بينما انشغل هؤلاء بالدسات الترويجية، خرج بابلو من تحت الأرض إلى الغابة، وفي ظرف أربع ساعات وصل للمليون مشاهدة، خلال يوم، وصلت الأغنية للمرتبة العاشرة عالميًا على يوتيوب، والثاني عالميًا في قائمة الراب على منصة ديزر.

غابة

في فيلم «أرض الخوف»، لمخرجه داوود عبد السيد، تبعث الداخلية يحيى المنقباوي (أحمد زكي) في مهمة دائمة، حيث يتم زرعه بين عتاة تجارة المخدرات. مع دخوله الكار وتحوُّله لواحد من الجبابرة، يقرر المعلم يحيى التخلص من المعلم بسيوني، أحد كبار المعلمين، فيذهب وحده ليقتله وحراسه بيده العاريتين، يمر من جانب السيارة ليتفحص الجثث، ثم يبتعد خطوه، ويدخل الغابة.

في مشهدٍ يتناص معه، تحيةً للمخرج داوود عبد السيد، يمر مروان بابلو على تلك السيارة التي جلس عليها مع مولوتوف في ”فري“، ينظر من تحته، يتفحص ملابسه القديمة الممزقة تحت عجلاتها، ثم يبتعد وترتفع الكاميرا معه، حيث يدخل الغابة، بينما يغني في الخلفية ”دا الموضوع، وهي دي الغريزة/ بإيدك وسنانك، وما تحلِّش الفريسة/ وفي قلب الوحل، لازم تلاقي الميزة/ بقينا عايشين، أكننا جوة، غابة“.

يعود بابلو رغم عدم وضوح الرؤية، توسوسه شياطينه بأن يفتك بالجميع وينتزع حقه من أفواههم كما اعتاد، فيخرج أخيرًا للرد: ”كلامكو كله مثير للشفقة / أول ما جيت حلت البركة/ طبقنا طابق على طبقك/ دوَّت حقي دي مش صدقة“.

لا يتنظر بابلو تعاطفًا من أحد، لا ينتظر أحدهم ليفسح له الطريق، يقتحم بعودته ليجلس على عرشه الذي لم يجد من يشغله في غيابه، يحتل المشهد كـ”ثانوس“، شرير عالم مارڤل الذي احتل الأرض وأفنى نصف سكانها بضغطة من أصابعه.

عادة ما يختم بابلو أغانيه بإشارته المعتادة إلى الخلاصة، ففي ”الغلاف وأوزوريس“: ”دوا هو اللي صار، أهو دا اللي صار“، فيفولكلور“: ”دوّا الفولكلور باعمل اللي أنا عايزه“، في سندباد: ”دا مش وهم دا الطموح“، وأخيرًا في غابة ”دا الموضوع وهي دي الغريزة“، غريزة البقاء التي حملها معه منذ بداية الرحلة.

كبرنا وفهمنا/ خسرنا وكسبنا/ دايمًا حاضرين/ مهما غبنا“.. بدخوله الغابة يمحي مروان بابلو التاريخ من حوله، ولا يترك لنفسه بابًا للحنين أو الندم، فقط مساحة محايدة لإدراك تجربته والتعلُّم منها، يتسامى مع خسائره، ويتجاوز التشكك في قيمة وجوده. بدخوله الغابة، يفنى العالم القديم من حوله، لا تذر غابته منه شيئًا، في انطلاقٍ نحو العالم الجديد الذي طالما تمناه، أو ربما كان ذلك كله محض خيالاته.