من تناثرات الذكرى التي مضت، وتلك البيوت القديمة التي تشبهها، نعود كل يومٍ إلى تلك الرغبة الصادمة في الانعزال بعيدًا حيث لا يبقى إلا صدى الپيانو وترددات صوتٍ يتمتم بنغماتٍ جنائزية، تخفتُ وتصدح موجاتها بين الجدران الواسعة بلا أثرٍ نتبعه.
في أكتوبر ٢٩، من عام ٢٠١٤، سمعت هذه الأغنية للمرةِ الأولى، وانتهى مرة أخرى عالم آخر كنت قد عرفت. سبعة أيام بعد ذلك التاريخ، انتهت إحدى علاقاتي بشكلٍ درامي ومفجع، لكني رغم معرفتي المطلقة بحتمية هذه النهاية، تملكني شعور عام بالرهبة فور سماعي الأغنية، ظللت حبيسها لمدة أسبوع قبل أن أقرر البحث وراء صانعها.
“هي رسالة لشخص أحببته ولم نتوافق سويًا، ورسالة إلى ذاتي، أن أحب بشكلٍ أفضل.”
ليز هاريس عن أغنيتها
الطواف في دوائر مستمرة كان وما يزال دومًا اللعبة العدمية المفضلة للإنسان، ليس اختيارًا واعيًا بقدر كونه جهولًا بواقعه، وخائفًا من مواجهة المجهول.
يفتنني دائمًا كيف تستعمل ليز هاريس المساحات المحيطة والغرف المهجورة في تضخيم شعورًا قويًا بالتجويف في الروح، سلسلة من الانهيارات الداخلية والفراغ والحطام الناتج عن استدعاء ذكرى فقد المحبوب، مخيفٌ كيف يتحول صوتها لتفصيلة صغيرة جدًا من مشهدية شاسعة تحمل في طياتها طبقاتٍ أعمق.
كتبت وسجلت ليز هاريس هذه القطعة وألبوم “روينز” خلال إقامتها الفنية بالبرتغال منذ سبع سنوات. حول ذلك الوقت، لم يكن سواها، تجلس أمام بيانو قائم، لتفرغ ذلك الأسى الثقيل في صدرها، وتسجله كله باستخدام مسجِّل رباعي المسار، من خلال نفس المايكروفون.
ليز هاريس
بشكلٍ راديكالي، تستعمل هاريس صوتها بإبهامه تحت طبقات طاحنة من السرية والانعكاسات وشعور مفجع بالفراغ الداخلي، متضاعفًا بغياب الصوت تدريجيًا بين أصداء سردية الپيانو. يغرقني تشفير صوتها الناعم في تطوُّقٍ معمق لشيء لم يكن يومًا هنا، يخادعني ويغريني برائحة العزلة.
“معي لك هدية / عندما نصل أخيرًا إلى قرار / هزليٌ كم لم نعرف بعد / أو كيف ما زلنا ندور”
تبدأ القطعة عند ذلك التيه الذي صاحب الطرفين، حالة من الترحال المستمر بلا مغزى، غير قادرين على سن قواعد انتهاء ذلك الحب، أو حتى كيف عليهم استيعاب ذلك والمضي قدمًا بالتخطي.
ولأن ترحالهم دائري المسار، لا يذهبون إلى أي مكان، بل لا تعتقد ليز أنهم سيجدوا إجابة حتى، لهذا تحديدًا تنتهي المرثية تمامًا حيث بدأت: “وربما سنجده يومًا / واستطيع أن أترك لك رسالتي / تناثر الزجاج في الأروقة / نداءٌ عبر الحجرات مع الصدى” بذلك الرثاء أثيري الألحان، شجب أطلال الحب الذي ازدهر يومًا، وداع حتمي، وداع لا يستطيع إطلاق غضبه بقدر ما يحاول التسامي أمام شعور جارف بالأسى والمرار.. “لم نكُ سوى انعكاسات / لحجراتٍ تحملُ أصداءً / عبر مفرق قاعاتٍ ممزقة الدواخل”.
“هذا الألبوم هو توثيق. تداعٍ إلى ذلك المسير اليومي. تراكيب فشلت. عيشٌ على بقايا الحب. تركت تلك الأغان كما أتت (صفير الفرن، عندما انقطعت الطاقة بعد العاصفة)؛ آمل أن يحمل الألبوم ملمحًا من المكان الذي كنت فيه”.
“حبنا لم يكُ شيئًا / الله، وحده ليعزّيك”
- صدرت بالإنجليزية في العدد الخاص رقم ٢ من نشرة أغاني الأرنب.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.