ميدوسا: ثلاثة نصوص عن الأماكن

١

كنا قد انتهينا من الطواف بالحرم المكي وطلعنا السلالم على وشك الخروج، فوقفت أنا، خلعت طاقيتي ورميتها صوب الكعبة، وسط استغراب من معي عللت ذلك بأنها قد تريد أن تصلي، كنت في الثالثة من عمري آنذاك حسب روايته. أنا فقط أذكر القصة، لا الزمان أو المكان.

٢

بعد رحيله بأيام، ذهبت إلى هيلوبوليس، وبدأت أرتجل حيث التقينا للمرة الأخيرة. سمعت تلك الأغنيات مرة تلو الأخرى، كنت ما أزال أشرد وهي تنظر لي وتغني: موسيقيي دقوا وفلوا والعالم صاروا يقلوا. قبل أن تتحول نظرتي للحياة كلها إلى صياغة أكثر تصالحًا حين تنظر لي وتضحك ونغني سويًا: سودن مساي، يلَّا؟ ما تسودن، خير من الله.. كنا نخرج عن جملة زياد الرحباني ونردد لبعضنا: بس إنت مساي، والقصة إنت القصة، شو فارقة معاي.

٣

لم أنتم يومًا للأماكن، كثير التنقل، بدِّلت مسكني خمس مرات، دوائري الاجتماعية وأماكن ظهوري لم تسلم بطشي بشكلٍ تصالحت معه ولم أعد أحصيه. خمسة وعشرون عامًا لا أعرف ما هو الإحساس بالألفة، ولا كيف أجده في الناس والشوارع، كنت أخرج أحيانًا بدون مقدمات ولا أي احتمالات للعودة، لذلك لا أفهم ما يمثله لي المكان.

استخدم كلمات كالترحال والطواف كثيرًا في قاموسي وحتى فيما أكتب وأغني. لا أعرف مثلًا كلمات كالراحة أو مؤشرات الزمن، البداية والنهاية، حيث الزمن عندي سباق مستمر، لا أعرف تحديدًا متى انطلق، لا أذكر الزمان أو المكان.

أتحدث دائمًا عن الهجرة والخلاص الفردي، لكن عندما جاءني عرض عمل في مجالي بإحدى الدول الأوروبية، رفضت العرض بهدوء وقلت ليس بعد. غير متأكد من قدرتي على الرحيل بشكل مطلق حتى الآن، لأن مني ما شعر فجأة بما له هنا.

أفكر أحيانًا، هل بدأت في الاعتياد والتأقلم؟ هل أحببت مرارة الهواء الملوث ورائحة الدماء وبلاهة الأخبار والمادة الإعلامية؟ هل بدأت في التقبل سوء الخدمات ورداءة البنية التحتية التي تؤثر على جودة كل شيء حتى إتصال هاتفي بسيط؟

للحياة في هذا البلد مسار يلتف حول ذاته قبل أن يلتف حول عنقك فيعتصرها، مدينة الوهم، صرحٌ من الفراغ والأكاذيب، ميدوسا سالبة الحلم والشباب.

عشت طيلة حياتي في عزلة اختيارية، كنت دائمًا أميل لشيء من الراديكالية في قراراتي، روَّضت ذلك مع الوقت، لكن ما يزال من الممكن لمن يقترب أن يشم رائحة ذاك الغضب المتخفي تحت مسام جلدي، أطلقه بين الحين والآخر عندما ينام الجميع، أسميه بغير أسمائه وأجمِّله، فيبدو فنيًا، أو هو كذلك؟

لطالما كان الغضب دافعي الأكبر، ظل حتى نسيت متى بدأ أو كيف كان الأمر قبله، لا الزمان ولا الكيفية، لكن يقيني الوحيد هو أين عرفت كل هذه النيران التي لا تخمد أبدًا… الڤيلا الجديدة أبعد، في كومپاوند آخر معزول عن العالم الخارجي، رأسي إلى السماء، أتوهم القدرة على الهروب، من ميدوسا.

  • اللوحة: رأس جورجون، لوحة لرسام الواقعية الألماني، ڤيلهلم تروبنر