التخفي ممارسة وليس فعل، أتذكرين كم قلتِ إنني صرت غريبًا ومخيفًا؟ لقد مللت التعري. لم يُهشِّم الحزن أحشائي إلا تلك العابرة، على آهات آن بُرون ترثي دايدو، شق الصراخ صدري، خرج بكائي متوسلًا الخلاص، بينما كنتِ أنتِ العدم.
“حين أُدفن، آمل ألا تثير ذنوبي بصدري قلقًا.
اذكرني..
اذكرني، وانس مصيري”
تمرر سكينها على أطرافي فتفصلها عني. تتظاهر بالارتجال بعيدًا، ثم تعود لتأخذ عني جلدي، أملًا ألا أبوح بذنبها، كي لا تتلوث عيناها بالدمع.
كرَّةً تلو الأخرى، يا أسفي، أقول لم أعد بقادرٍ على احتمال كل ذلك الألم، أرحل على أمل الموعد الأخير مع السماء، لكني أموت وأعود.
ماذا لو كانت ما تتركني هيك رسالة انتحار؟ ذلك التقفي الأخير لأثر المحبوب، قبل الالتحاف بثوبه المنسي، أو الشرشف الذي حمل عطره. الذكرى المتمثلة في العطر والشرشف، هي الكفن.
نحن أبناء المهرب، نتاج العزلة وجفاء الأصدقاء، نحن ما تبقى من المحاولات، وما لا يحصى من الحيوات. إننا نحيا بعصفِ من يمضي علينا. ونعتلي جثث المحبين القدامى، صعودًا إلى السماء، أو مسيرًا إلى المجهول. أنا حيث تنتفض الأرض بالدم، بالمني، متى انفطرت السماء فابتلعت الأزرق والأحمر.
عراة الشجر نلاحق أحلامنا لهاثًا، لتتساقط عن جباهنا، مذ طلوع الشمس، حتى المغيب، نتعبد بالحطام إلى سيزيف ونتضرع بالأمل إلى آيودي.
لا أنحي عليك بلومٍ، فلتهرب كما شئت، إلى حيث يموت السير، يدركك صوتي متى انتهيت. ولو أقسموا بكل ما ملكوا من روحٍ وألم، لو أمِلوك ابنًا ضالًا عائدًا، نادوك رحيمًا، وطهرَّت دماؤك أطرافهم، فلا رب لهم اليوم، غابت الروح.
فنون إنهاك الذكرى: البحث والتدمير والتخفي والحكي لذاتك وسط العامة، أغني خمس آيات لحنتها من إحدى السور؛ فيظنون أني أرنِّم، أو أرتِّل، أو أحكي بالعبرية.
ملايين الشموع تحترق لأجل الحب الذي لم يأتِ أبدًا، ملايين أخرى احترقت في انتظار ذلك العون الذي لن يأتي أبدًا، ذلك الإله الزائف؛ كف صوتي عن مناجاة السماء وكف جسدي عن انتظار رعشتي الضائعة.
بتُ أسكن أرضًا بعيدة، يكلمني أمواتها ليلًا، وأغني لهم بحلول الفجر، لا نميزه بالضوء، بل يعرفنا عندما يهدأ صخب الجسد وتندثر حيرته ورقة تلو الأخرى.