بالأمس حلمتُ بكِ، كنتِ ممرضة في قصر عجوزٍ يحتضر، أجيء إليكِ كل يومٍ بالأغاني والأحلام، نجلس سويًا أمام النافذة، نشاهد الشوارع البعيدة والمدينة الغريبة علينا، نترك النسمة تؤنس غربتنا الحالمة.
لوهلةٍ لم أتعرف عليكِ، هكذا هي الأحلام دائمًا، يتجسَّد الأشخاص في أجسادٍ ووجوهٍ أخرى لا تنتمي لهم. كان شعركِ قصير، لا يتخطى كتفك، بشرتك أكثر قمحية ولمعانًا في الظل، حيث تتبعكِ خيوط شمس العصر من بين خُصَلِكِ.
بعد اثنتاعشر ساعة من اليقظة، لا أتذكر هل تبادلنا القبل بحرارةٍ وتأوُهٍ في تلك الغرفة المغلقة أمام النوافذ أم أن وعيًا ما يحاول الآن إعادة تشكيل الحلم لما أحب
ما أذكره جيدًا أن العجوز رحل، فأدركنا حتمية المضي قدمًا نحو العالم، جذبتني بلهفةٍ، وقلتِ أنه علينا أن نهرب معًا، أن نخوض الحياة سويًا، أن ننام عراة أكثر، وأن أقبلكِ كل وقت، أن أترك علاماتي على جلدك بإخلاص.
حينما خرجنا، كان العالم حولنا وكأنه بالكاد يتشكل من جديد، الطرقات مساحاتٌ شاسعة من الفراغ الأبيض تحيط أجسادنا، وأناسٌ قليلون، الخلفية كولاجية مُركبَّة، بين شوارع وسط القاهرة والأسكندرية، وقصقصات أوروبية، تتكوَّن وتتفكك حسب ذاكرتي البصرية، حتى تتحول بالتدريج لما يشبه زحام مدينة صناعية، حيث الجميع يجري وراء شيء ما، ومن شيءٍ آخر يتبعه.
نجري نحن بلا أحدٍ يلاحقنا، نقفز من الفراغ الأبيض إلى فراغٍ أزرق يشبهني، يشبه صمتي وحزني العميق الذي يطلع إلى السطح بعد كل هزيمة، وكل انتصار..
لكنك الآن تعيدين كتابة تاريخي، تجمعين هزائمي كلها وتوصدينها في دلاية صدركِ، ثم تمحين آثارها عن سطوري، وتمسحين بيداكِ على صدري، بينما نجري.
السماء بيضا والأرض زرقا، وأنا وإنتِ، وأنا، وحدي.. إنتِ فين؟
- الزورق البخاري السريع، لوحة لبينيدتا كاپَّا، إحدى رسامين الحركة المستقبلية الإيطالية التي تأسست في مطلع عشرنيات القرن العشرين.
.